أسرار المراقبة.. حكاية الموقع الإلكتروني الذي اخترق دولة الصين الأمنية
(المجد – وكالات)
خلف سوق “هايتس ماركت” ومطعم للشطائر، وبجوار صالة “فينيشرز” الرياضية لفنون القتال المختلطة، في حي تنتشر فيه المروج الخضراء المُشذَّبة والمُزيَّنة بكُرات لامعة عاكسة لضوء الشمس؛ يقع هناك مستودع متواضع هو مقر مؤسسة إخبارية غامضة ذات اسم عادي وغير مميز: “إنترنت بروتوكول فيديو ماركت” (IPVM). ويدل هذا المكان الرتيب على نوع العمل الصحافي الجاري داخله، فلا يحوي مكتب “آي بي ڤي إم” غرفة أخبار مزدحمة بالصحافيين الذين لا يكفون عن النقر على لوحات مفاتيح الحاسوب، ولا شاشات تلفاز تعرض القنوات الإخبارية المحلية. ولكن يوجد في المكان تقنيون يُشغِّلون كاميرات مراقبة وغيرها من المعدات الأمنية لإجراء سلسلة من الاختبارات عليها. ويتولى طاقم صحافي صغير مهمات إخبارية أكثر تقليدية، منها التعمُّق في ملفات الشركة ووثائقها المالية باحثين عن تقارير للنشر على موقع “آي بي ڤي إم”.
أُنشِئت الشركة لتكون وكالة متخصصة تُركز على مجال معين، وعلى مدار معظم سنوات عملها الثمانية عشرة في نشر المحتوى، كان قرّاؤها من فئة المهنيين والفنيين ممن عملوا في مجال المراقبة التجارية عموما. وفي السنوات القليلة الماضية، نشرت “آي بي ڤي إم” سلسلة من الانفرادات الصحافية المذهلة، أُعِدَّ الكثير منها بالتعاون مع مؤسسات صحافية كبرى مثل “نيويورك تايمز” و”وول ستريت جورنال” و”لوس أنجلوس تايمز”، وكشفت هذه الانفرادات جوانب مقلقة لنشاط شركات المراقبة الصينية. فقد قدَّم تقرير نشرته صحيفة “واشنطن بوست” في ديسمبر/كانون الأول 2020، بالاستناد إلى وثيقة كشفتها مؤسسة “آي بي ڤي إم”، تفاصيل جهود عملاق التكنولوجيا الصيني “هواوي” لتطوير نظام مسح ضوئي للوجه يمكنه إطلاق “تحذير عند الكشف عن الإيغور”، في إشارة إلى أقلية الإيغور المسلمين القاطنين في شمال غربي الصين. ودفع التقرير مسؤولا إداريا أوروبيا في “هواوي” إلى الاستقالة منها بعد مدة وجيزة، ثم في فبراير/شباط 2021 تحدَّث علنا عن تلك التكنولوجيا.
في الشهر ذاته، نشرت صحيفة “لوس أنجلوس تايمز” تقريرا مستندا إلى دليل المستخدم الذي عثرت عليه “آي بي ڤي إم”، الذي زعمت فيه شركة “داهوا” الصينية أن التكنولوجيا التي تتمتع بها كاميراتها يمكنها التعرف على الإيغور وتحذير السلطات تلقائيا في الحال. وقد دفع هذا الكشف مجموعة من أعضاء مجلس الشيوخ الأميركي إلى مخاطبة شركة “أمازون” مطالبين إياها بإبداء أسباب توقيعها صفقة بملايين الدولارات مع “داهوا”. وفي تقاريرهم بشأن الصين، أشارت كلٌّ من اللجنة التنفيذية المشتركة بين الحزبين (الجمهوري والديمقراطي) في الكونغرس بشأن الصين، ووزارة الخارجية الأميركية، إلى جهود وكالة “آي بي ڤي إم” الإخبارية. وبفضل سجل الشركة في نشر تقارير شديدة الأهمية؛ فإنها جذبت قُرّاء جددا، ليسوا من المهتمين بتكنولوجيا المراقبة فحسب، بل ومن الراغبين في فهم طموحات بكين الجيوسياسية، وكذلك العلاقات المتوترة بين الولايات المتحدة والصين.
آي بي ڤي إم

تأسست “آي بي ڤي إم” عام 2008 على يد “جون هونوفيتش”، المنفي من سوق المراقبة بعد عدد من التجارب السيئة في شركات التكنولوجيا الأمنية التي تُفْرِط في الوعود ولا تحقق إلا القليل. وفي مقابلة حديثة، أخبرني هونوفيتش، البالغ من العُمر الآن 46 عاما، أنه لطالما اندهش من كمِّ “التضليل والأكاذيب الشائعة في ذلك المجال. وقد جعلته هذه التجارب يدرك أن “اللا أخلاقية إحدى أهم السمات المطلوبة لتحقيق ميزة تنافسية”.
ينظر هونوفيتش إلى الدوريات المتخصصة في التجارة نظرة دونية، إذ “اشتراها” في اعتقاده المُعلِنون الذين يفرضون سيطرتهم على التقييمات والمحتوى. ولتجنُّب ذلك، دشَّن هونوفيتش شركة “آي بي ڤي إم” بماله الخاص ورفض قبول نشر الإعلانات. في البداية، ركَّز الموقع على تجميع أخبار حول مجال تكنولوجيا المراقبة والأمن، ثم أضاف قسما لمقالات الرأي والتحليل، وبعد ذلك بفترة قصيرة بدأ يُجري بنفسه اختبارات أولية للكاميرات ومعداتها. فقد أخذ هونوفيتش “يُصوِّر أشياء في مواقف السيارات ومن شرفة منزله”، بحسب ما أخبرني به “إيثان آيس”، واحد من أوائل الموظفين في الشركة، مُضيفا: “لم يُجرِ أحد غيره أيَّ اختبارات مستقلة بتاتا”. هذا ويبلغ عدد موظفي الموقع الإلكتروني حاليا 25 شخصا تقريبا، ولديها أكثر من 15 ألف مشترك.
يشغل آيس حاليا منصب مدير قسم الاختبار في “آي بي ڤي إم”، التي تطورت منشآتها من مجرد “صندوق خلفي لسيارة الفولفو” الخاصة بآيس، إلى مبنى على مساحة 1114 متر مربع يضم خزانات فيها 600 كاميرا تقريبا جرى اختبارها وتعطيلها. وفي أثناء زيارة أجريتها في أغسطس/آب، لاحظت وجود مجموعة من السكاكين من نوع “باوي” (المخصصة للقتال) موزعة على مجموعة من الأرفف. وأوضح “دون ماين”، مدير قسم التشغيل في الشركة، أن تلك السكاكين استُخدِمَت لاختبار مدى فاعلية تكنولوجيا المسح الضوئي باستخدام الذكاء الاصطناعي، التي يقول صُنَّاعها إنها قادرة على اكتشاف الأسلحة المُخبأة. وقد لاقت الشركات التي تُسوِّق مثل هذه الأدوات اهتماما مفاجئا منذ حادثة إطلاق النار في إحدى المدارس في مايو/أيار الماضي في مدينة يوڤالدي بولاية تكساس. وقد شكَّك آيس وماين تشكيكا كبيرا في التصريحات المنتشرة بشأن قدرات تلك التكنولوجيا. أما آيس، الذي يصف نفسه بأنه “أحد أكثر الأعضاء الفخورين بحمل بطاقة الاتحاد الأميركي للحريات المدنية في مجال الصناعات الأمنية”، فأطلعني على عنبر آخر جرى فيه اختبار كاميرا حرارية صينية الصنع، وكان ذلك مثالا على التكنولوجيا التي انتشرت خلال جائحة كورونا، في الفترة التي أطلق عليها آيس “فترة الجنون بالكاميرات الكاشفة للحُمَّى”.

ينشأ عن الفاجعات المأساوية، مثل حوادث إطلاق النار الجماعي والهجمات المتطرفة، ازدهار في مجال الصناعات الأمنية، ولم تكن جائحة كورونا استثناء، إذ يقول آيس: “نحن في مجال يعتمد تسويقه على مخاوف الناس، هذه هي طبيعته”. على شاشة قريبة منا، عُرِضَت صورُنا ودرجات الحرارة المفترضة لأجسامنا. حينما وضع آيس نظارته، كان كل شيء على ما يرام، لكن عندما خلعها، انطلق إنذار يشير إلى أن حرارته شديدة الارتفاع. ولم يكن ذلك سوى تجربة مرتجلة، لكنها أظهرت إلى أي مدى قد تكون القراءات غير موثوقة.
لا يزال هونوفيتش الوجه المشهور للشركة، مما جعله هدفا للمدونات وحسابات “تويتر” المجهولة. ويتهمه البعض بأنه ثرثار أو متنمر يروج لنفسه بنفسه ويستخدم موقع “آي بي ڤي إم” لتشويه سمعة الشركات التي لا تروق له. ويشتبك هونوفيتش بين الحين والآخر مع منتقديه في قسم التعليقات بالموقع وعلى موقع “لينكد إن”. وقد قال لي “غوردون هوت”، الذي عمل مع هونوفيتش في مطلع الألفية، ويعمل حاليا مهندس برمجيات في شركة “سبوتيفاي”: “من الواضح أنه يُغضب الناس، وذلك لأنه يحاول نشر الحقيقة”.
عين على “عيون” الصين
بحسب هونوفيتش، لم يتخذ الموقع قرارا واعيا بالتركيز على الصين، وقال إن كان هناك “جهة سيئة” أفرط موقع “آي بي ڤي إم” في التركيز عليها، فإنها في الحقيقة “وادي السيليكون لا الصين”. ولكن مع غزو الشركات الصينية للسوق الأميركية بمعدات رخيصة يجري تحديثها باستمرار، لم يستطع الموقع تجاهلها، وبحسب ما قاله لي آيس: “إن حجم تلك الصناعة القادمة من الصين كان أكبر بكثير مما تخيَّلنا”.
لم يُدرك آيس هذا الأمر إلا بعد حضوره معرض الأمن العام الصيني عام 2015. فحينما زار مكاتب شركات مثل “هيكفيجِن” (Hikvision)، المنتج الأكبر لمعدات المراقبة في العالم، فهم آيس جانبا مما وصفه صحافيا “وول ستريت جورنال”، “جوش تشين” و”ليزا لين” بأنه واحد من “الطموحات الكبرى” لدى الرئيس الصيني “شي جين بينغ”، وهو “خلق نوع جديد من الحكومة الحديثة، معززة بالبيانات والمراقبة الرقمية الجماعية، التي يمكنها منافسة الديمقراطية عالميا”.

كشفت الصحافة الاستقصائية المدعومة من موقع “آي بي ڤي إم” الكثير من ملامح هذه الخطة، وتبيَّن أن بعض عناصرها الأكثر فظاعة وبؤسا ظهرت إلى النور في شينجيانغ، المنطقة التي يواجه فيها الإيغور وغيرهم من المنتمين إلى أقليات مسلمة أخرى “نمطا ممنهجا من المراقبة الإلكترونية الشرسة”، بحسب وصف تقرير الأمم المتحدة المنشور الشهر الماضي.
تزامن تركيز موقع “آي بي ڤي إم” على تكنولوجيا المراقبة الصينية مع تنامي التوترات العسكرية والاقتصادية والأيديولوجية بين الولايات المتحدة والصين. وإلى جانب وضع شينجيانغ، ازدادت العلاقات بين البلدين صعوبة بسبب نهج بكين العدائي تجاه تايوان، التي تعتبرها الصين جزءا منها رغم أن الحزب الشيوعي الصيني لم يحكمها قط، بالإضافة إلى سحق الحركة المؤيدة للديمقراطية في هونغ كونغ. وفي واشنطن، يتفق الحزبان الجمهوري والديمقراطي، في سابقة نادرة، على انعدام ثقتهم في بكين، والرغبة في مواجهة الصين على نحو أشد.
ذكر “ماركو روبيو”، السيناتور الجمهوري من ولاية فلوريدا، الذي يعتبر هذه المسألة قضية شخصية بالنسبة له، في رسالة بريد إلكتروني أرسلها إليّ، قائلا: “كل علاقة تجارية في الصين تستحق التدقيق فيها جيدا، خصوصا فيما يتعلق بالتكنولوجيا. إن البحث الذي توفره شركات مثل “آي بي ڤي إم” شديد الأهمية في مساعدة الإعلام وصناع السياسة والشعب الأميركي لفهم الخطر الذي يُشكِّله الحزب الشيوعي الصيني، والمدى الذي يمكن أن تصل إليه بعض الشركات لتجاوز القانون الأميركي”. وقد أدرجت وزارة التجارة الأميركية شركتَيْ “هيكفيجِن” و”داهوا” على القائمة السوداء الخاصة بها عام 2019، على خلفية دورها في سياسة بكين ضد الإيغور والأقليات الأخرى.

ليست منطقة شينجيانغ المحور الوحيد للعمل الاستقصائي الذي تُجريه “آي بي ڤي إم”. فقد شكَّلت الوثائق التي حصلت عليها الشركة الأساس الذي بُني عليه تقرير وكالة “رويترز” المنشور عام 2021، حول طلب السلطات في مقاطعة “خِنان”، إحدى أكبر المقاطعات الصينية، لشراء نظام مراقبة كانت تعوِّل عليه في تتبُّع الصحافيين والطلاب الأجانب وغيرهم من “الأشخاص المشبوهين”. وفي يونيو/حزيران الماضي، أجرت صحيفة “نيويورك تايمز” تحقيقا حول لجوء الصين إلى المراقبة لفرض سيطرة اجتماعية وسياسية، واعتمدت جزئيا على سجلات كشفتها “آي بي ڤي إم”.
“سور” الصين العظيم
في السنوات الأخيرة، ضيَّقت بكين عمل الصحافيين الأجانب بذريعة الحفاظ على الصحة العامة بالتزامن مع استمرار سعيها لتحقيق سياسة “صفر كوفيد”، كما قلَّصت أعداد المراسلين الذين يمكنهم العمل ميدانيا. وبدلا من ذلك، مشَّط باحثون مغامرون الإنترنت بحثا بين منشورات مواقع التواصل الاجتماعي وصور الأقمار الاصطناعية والوثائق التقنية التي توفر طريقا جديدة نحو القصص الأعلى مشاهدة حول العالم. ولكن حتى ذلك صار تحديا، “إذ إن هذه المعلومات ما زالت متاحة، بيد أنها تتحول شيئا فشيئا إلى لعبة مراوغة بين قط وفأر، حيث يفرض الصينيون المزيد من الحواجز التقنية على العالم الخارجي”، بحسب تعبير “داليا بيترسون”، محللة الأبحاث في مركز الأبحاث الأمنية والتكنولوجيا الناشئة التابع لجامعة جورج تاون، الذي يركز على الصين.
لا يزال موقع “آي بي ڤي إم” متمسكا بعهد الاستقلال الذي تعهَّد به “هونوفيتش”، فهو لا يقبل الإعلانات أو التمويل أو الرسوم المالية من الشركات المُصنِّعة مقابل تقديم الاستشارات. وتقول بيترسون: “يمكنهم أن يكونوا مجرد شركة تُجري اختبارات موضوعية على تكنولوجيا المراقبة بالفيديو والاكتفاء بهذا الحد، مع عدم التدخل في الجانب الأخلاقي. لكنهم بذلك يتخذون موقفا أخلاقيا قويا ضد إساءة استخدام تكنولوجيا المراقبة، ولذلك فإن إسهاماتهم لا تُقدَّر بثمن”.

جاءت استجابة الصين لجهود “آي بي ڤي إم” على نحو متوقع. ففي عام 2018، حُظر موقع “آي بي ڤي إم” في الصين، على غرار الكثير من المواقع الإخبارية الغربية الأخرى. وفي وقت سابق من العام الجاري، اتهمت صحيفة “الصين دَيلي”، المدعومة من الدولة، شركة “آي بي ڤي إم” بأنها “شركة مراقبة جماعية”. كما ضخَّمت وسيلة إعلامية صينية أخرى من تعليق نُشِر على إحدى المدونات المهتمة بالتكنولوجيا، حيث ربط كاتب التعليق بين موقع “آي بي ڤي إم” ومدونة يديرها وزير الخارجية السابق مايك بومبيو، الذي فرضت عليه الصين عقوبات ويواصل إطلاق تحذيرات طنانة حول التهديدات التي تُشكِّلها الصين.
أما شركة “هيكفيجِن”، ورغم أن معظمها مملوك لشركة صينية مملوكة للدولة، فقد جاء ردها على تقارير “آي بي ڤي إم” على الطريقة الأميركية؛ إذ استعانت بجماعات الضغط داخل أروقة واشنطن من أجل التشكيك في نزاهة “آي بي ڤي إم” وموثوقيتها. وفي يناير/كانون الثاني، نشر موقع “أكسيوس” تقريرا يفيد أن “هيكفيجِن” طلبت من موظفي مكتب الأخلاقيات في الكونغرس التحقيق في أنشطة “آي بي ڤي إم” حول انتهاكات محتملة لقانون الإفصاح عن نشاطات جماعات الضغط (الصادر عام 1995، الذي يُفترض بموجبه أن تُفصح المؤسسات التي تعمل بوصفها جماعات ضغط عن أنشطتها والجهات التي تعمل لصالحها)*.
من غير المُرجَّح أن تنجح حملة الضغط في تغيير النهج الذي تتبعه “آي بي ڤي إم” تجاه الصحافة. وكما يقول هونوفيتش: “أعتقد أن اتخاذنا مواقف أخلاقية واضحة، في الوقت الذي يجب فيه اتخاذ مثل هذه المواقف، هو أمر بالغ الأهمية. ولا يروق لي الأمر برُمَّته حينما يقول أحدهم إنه حين يوجد نازيون وغير نازيين، فإنه لن ينحاز إلى أي فريق منهما”.