استراتيجيات المقاومة الفلسطينية
(مدونة المجد الأمني)
هو عنوان يخترق حالة التراجع والعجز العربي تجاه القضية الفلسطينية، ويقفز عن سؤال الواقع الذي فرضته المرحلة الجديدة: هل ما زلنا فعلاً نريد الانتصار على إسرائيل؟، أم أن التطبيع الحالي الذي تروّج له الأنظمة العربية وإعلامها الرسمي، قد وصل إلى إرادة الشعوب فغيّر وبدّل؟!
فللأسف، بعد أن انتقل الموقف العربي من مرحلة الدعم الكامل للقضية الفلسطينية في منتصف القرن الماضي، إلى مرحلة تداول الأفكار والمقترحات في كيفية الاستفادة من إسرائيل، فضلاً عن التحالف معها في قضايا المنطقة، فظاهرة الترحيب بإسرائيل، والقبول بها كدولة قوية في المنطقة العربية، لم يكن طفرة مفاجئة، وإنما جاءت نتيجة سياسات أمريكية وإسرائيلية تفاعلت معها الأنظمة العربية بكثير من الانهزامية وعدم الإدراك، والنتيجة التي وصلنا إليها، أن إسرائيل باتت حليفة للدول العربية في مواجهة الخطر الإيراني، والإرهاب “الحركات الاسلامية”، وانتقلت الدول العربية من مربع التفكير كيف ننتصر على إسرائيل، إلى مربع كيف نستفيد من إسرائيل؟، حتى أن كاتباً عربياً عنون مقالاً له ب”لماذا لا يقتدي العرب بإسرائيل اقتصاديا وعلميا وسياسيا؟”، ومن يضع إسرائيل في موقع القدوة والنموذج، فإنه سيصنع له هالة من التقدير النفسي الذي لن يقبل لأي كان أن يحارب هذا النموذج “إسرائيل”!
وحتى لا نفقد البوصلة، وتضيع الجهود والمقدرات في مغامرات أو سياسات عشوائية، أردنا أن نطرح العنوان “استراتيجيات المقاومة الفلسطينية” في مواجهة إسرائيل؛ من أجل أخذ زمام المبادرة في صناعة الحدث والخطة والفعل، وإفلاتاً من المربع الذي تحاول فيه إسرائيل أن تستدرج أعداءها إليه، وهي المنطقة المريحة لها دائماً، وما اعتادت عليه إسرائيل في علاقاتها مع العالم العربي طوال السنوات السابقة بأن تحصر الفعل العربي في إطار الردّ على سياساتها المرسومة مسبقاً، ولذلك هي تحاول دائماً استدراج العالم العربي إلى مربعات المواجهة العسكرية وضمن شروط نظريتها الأمنية من حيث اختيار المكان والزمان المناسبين لها، حتى كادت أن تنجح في تعزيز أسطورة الجيش الذي لا يقهر، لولا نجاح المقاومة الفلسطينية في الصمود أمام الترسانة الإسرائيلية، وتسجيلها أهدافاً معنوية ضد الصورة الذهنية للجيش الإسرائيلي، فعلى الرغم من الحصار الخانق على غزة، والتشهير بحركة حماس-كرأس حربة للمقاومة الفلسطينية- وملاحقتها في الدول العربية بتهمة الإرهاب، إلا أن المقاومة في غزة أبدعت في استخدام الأنفاق الأرضية كسلاح هجومي ضد الجيش الإسرائيلي، بعيداً عن استهداف سلاح الجو الإسرائيلي، وكذلك تعزيز استخدامها لسلاح الضفادع البشرية حيث الشريط الساحلي الطويل الذي تطل عليه أكبر المدن الصناعية والاقتصادية، وأخيراً ما قامت به المقاومة من تسيير طائراتها دون طيار داخل أجواء الكيان، كل ذلك وغيره لم يُبقِ لإسرائيل وجيشها هيبة ولا ردعاً.
إسرائيل كأي دولة أو كيان تمتلك مقومات وموارد، كما أنها تعاني في جوانب أخرى من القصور والضعف، مع التذكير بأن قوة الدولة لا تنحصر في القوة العسكرية، كما أن القدرة العسكرية ليست جيوشاً وعتاداً فحسب، إنما هي تحويل كل امكانات الدولة- الثابتة والمتغيرة – إلى قوة فعلية، قادرة على إسناد الدولة في حالاتها وأوضاعها كافة.
لعل ما كتبه د.(أحمد داوود أوغلو) في كتابه العميق “العمق الاستراتيجي” من أفضل ما كُتب في هذا المجال، كونه أسس إطاراً نظرياً حاول أن يجعله مقياساً لفحص “موقع تركيا ودورها في الساحة الدولية”، حيث جمع (داود أوغلو) متغيرات وعناصر القوة للدولة في المعادلة الرياضية التالية:
ثقل الدولة وقوتها النسبية= (المعطيات الثابتة + المعطيات المتغيرة) x (الذهنية الاستراتيجية x التخطيط الاستراتيجي x الإرادة السياسية)
وهي معادلة ديناميكية ومتفاعلة فيما بين عناصرها في إطار الواقع السياسي المعاصر، حيث أن المعطيات الثابتة تتضمن كلاً من التاريخ والجغرافيا وعدد السكان والثقافة، وأن المعطيات المتغيرة تشير إلى القدرة الاقتصادية والقدرة التكنولوجية والقدرة العسكرية، فإذا توفرت الذهنية الاستراتيجية مع الإرادة السياسية في إنجاز خطة استراتيجية قادرة على توظيف الثابت من المعطيات وتطوير المتغيرات منها، فإنه حتماً سننجح في استنهاض أمتنا من كبوتها التي طالت.
وسنعمد هنا إلى تناول عناصر قوة الدولة ومدى حيازة إسرائيل لكل عنصر، ومن ثم نبني عليها استراتيجية المقاومة في استهداف هذه العناصر:
- حجم الدولة وعدد سكانها: وهو العنصر البشري، مضافاً إليه شرط الوعي والفاعلية، فهو أداة الفعل والاستنهاض في الدولة، حيث لا يمكن احداث تنمية ونهضة من موارد وامكانات، دون وجود عنصر بشري صاحب أفق منفتح، وهو أساس القوة الاستراتيجية لأي بلد، فالجغرافيا والتاريخ من الثوابت، ولكن يمكن للعنصر البشري الفاعل أن يضفي عليهما قوة وحركة.
حسب دائرة الإحصاء المركزية الإسرائيلية المنشور في أبريل عام 2020، فإن عدد الإسرائيليين 9,19 مليون نسمة، بينهم %74 يهود، أي أن عدد اليهود في دولة إسرائيل هو 6,8 مليون نسمة هذا العام، بينما عدد العرب-معظمهم فلسطينيين- داخل كيان “إسرائيل” بلغ 1,9 مليون نسمة، في حين بلغ عدد الفلسطينيين 13,5 مليون نسمة، منهم 5 مليون داخل الأراضي الخاضعة للسلطة الفلسطينية، حيث توقع جهاز الإحصاء الفلسطيني بأن تزيد نسبة الفلسطينيين في فلسطين التاريخية على عدد الإسرائيليين هذا العام، ليبلغ عدد الفلسطينيين 7,12 مليون فلسطيني مقابل 6,96 مليون إسرائيلي.
هذا يشير إلى أن إسرائيل تعاني من أزمة ديمغرافية، سببه قلّة في عدد سكانها بالقياس إلى عدد السكان العرب المحيطين بها، وخاصة بعد اقتراب انتهاء المخزون البشري ليهود الخارج الذي كان يمدّ إسرائيل بالعنصر البشري عبر “الهجرة”، مما دفع ببعض الباحثين الإسرائيليين بالمناداة باعتماد سياسة طرد السكان العرب وترحيلهم إلى خارج إسرائيل واستبدالهم بسكان يهود، وهو طرح يلتقي مع أطروحات بعض أساتذة الجغرافيا في إسرائيل مثل البروفسور (آرنو سوفير)، والذي يعتبر الوضع الديمغرافي من أشد الأخطار التي تواجهها إسرائيل.
استراتيجية المقاومة: إسرائيل من حيث الحجم وعدد السكان هي دولة ضعيفة، وحاولت تعويض هذا الضعف من خلال تقوية العنصر البشري، وتعزيز فاعليته وإنتاجه، حيث يرى الإسرائيلي نفسه أنه امتداد للعنصر الغربي من حيث البعد الحضاري، وأعتقد أن القوة التي تسكن الإسرائيلي جاءت نتيجة الموقع القوي والمهيمن لإسرائيل في المنطقة، وأنه في حال تعرضت إسرائيل إلى الضعف أو الاهتزاز فلن يبقى الفرد الإسرائيلي في قوته، بل سيكون أول من يضعف ويتراجع، وهذه سنة تاريخية وكونية، ذكرها ابن خلدون في مقدمته عند الحديث عن مقدمات وبدايات الدول، وتناولها المفكر الجزائري مالك بن نبي عند حديثه عن المنحنى الحضاري للأمة.
فعلى المقاومة في هذا الجانب استهداف الحالة النفسية والمكوّن الثقافي للإسرائيلي، وتوجيه خطاباً إعلامياً مدروساً بعناية، يستند على شواهد من التاريخ اليهودي، وتضمينه رسائل ترهيب للفرد الإسرائيلي، في موجات مستمرة لا تنقطع، وستستفيد المقاومة من منصات التواصل الاجتماعي في هذه الاستراتيجية، والهدف المرجو منها إضعاف العنصر الإسرائيلي من حيث قوة فاعليته وإرادته.
وعلى الجانب الآخر، على المقاومة الفلسطينية أن تستفزّ الذات الوطنية لكل فرد فلسطيني ليعطي أفضل ما لديه، وأن تعالج الوضع الراهن من تعطيل الكفاءات والطاقات الفلسطينية نتيجة الانقسام السياسي، وأن تضع الخطط والبرامج التي تهدف لتحويل التواجد الفلسطيني حيثما يكون إلى نهر من العطاء المتراكم في مشروع المقاومة، كما كان في حقبة السبعينات وترميز الفلسطيني ب”الفدائي”، وكذلك في أحداث انتفاضة الحجارة حيث الزخم الجماهيري العريض، وفعاليات انتفاضة الأقصى وما أفرزته من بروز فصائل العمل العسكري، كل هذه المحطات النضالية ساهمت في تعزيز الثقة في الهوية الوطنية، وتحريك العاطفة النضالية في المجموع الوطني.
وعلى المقاومة الاجتهاد في معالجة مصادر الضعف والتردد التي تضرب النفسية الشعبية، وفي مقدمتها ظاهرة الطبقية الاجتماعية، حيث وبعد إنشاء السلطة الفلسطينية بدأت الطبقية مع وجود المناصب الوزارية والقيادية في إدارة السلطة، وصاحبت هذه المناصب ثقافة غريبة عن عادات وتقاليد شعبنا، وتعارضت مع قيم التضحية والنضال ضد الاحتلال الإسرائيلي.
- القدرة الاقتصادية: تعتمد بعض النظريات العامل الاقتصادي مقياساً لقوة الدولة، واستطاعت بعض الدول الضعيفة عسكرياً من تركيز قوتها في المجال الاقتصادي والتكنولوجي، ونجحت في تبوء موقع متقدم في صفوف الدول القوية، فألمانيا على سبيل المثال، تمكنت من تجاوز الشروط القاسية التي جاءت بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية والتي تعرف ب”الطابع التحريمي”، وتوقيع وثيقة الاستسلام غير المشروط من قبل الجيش الألماني في مايو 1945م، حيث تم منع ألمانيا من بناء جيش للدولة، ولكنها وخلال أقل من 30 سنة من انتهاء الحرب، احتلت ألمانيا موقعاً متقدماً على مستوى العالم في القدرة الاقتصادية والتطور التكنولوجي ، وكان استثمارها في الفرد الألماني، فألمانيا دولة فقيرة من حيث النفط والغاز أو أي من الموارد الطبيعية، إلا أن الشعب الألماني يعتزّ بهويته وتاريخه، فاكتسب منهما قوة إرادة وفاعلية.
في حين أن دولاً أخرى كدول الخليج، والسعودية على وجه التحديد، وعلى الرغم من امتلاكها لمخزون كبير من النفط على مستوى العالم، إلا أنها لم تتمكن من استثماره كقوة تعزز من حضورها السياسي في المنطقة، لذلك المقصود هنا بالقدرة الاقتصادية هو مدى توظيف الدولة للمقدرات المادية واستثمارها في عملية التنمية والإنتاج، وليس تكديس الموارد المالية والأرصدة في البنوك.
وعلى الجانب الآخر، تعتبر إسرائيل دولة فقيرة من حيث الموارد الطبيعية والمواد الخام، مما جعلها تتجه لتعويض ذلك النقص باعتمادها على العمالة والبحث العلمي، فقد تميز القطاع الزراعي في إسرائيل بنظام إنتاجي مكثف لتعويض الشح في الموارد الطبيعية، وارتكزت الصناعات الإسرائيلية على ذات القيمة الإبداعية والتقنيات الخاصة، وشكل قطاع التكنولوجيا المتقدمة في إسرائيل أكثر من أربعين بالمئة من صادراتها، وذكر موقع ” وزارة الخارجية الإسرائيلية” بأن الإنتاج الصناعي الإسرائيلي حقق قفزات كبيرة على مستوى العالم في مجالات الالكترونيات الطبية والتكنولوجيا الزراعية والاتصالات البعيدة والمواد الكيماوية الدقيقة وعتاد الحاسوب وبرمجياته.
ومن جانب آخر، يأتي الدعم الأمريكي، ليساند إسرائيل بشكل كبير، حيث شكلت المساعدات العسكرية الأمريكية لإسرائيل نسبة %15 من ميزانية وزارة الأمن الإسرائيلية عام 2018، وبموجب إتفاق بين إسرائيل والولايات المتحدة تلتزم أمريكا بتقديم 38 مليار على مدى عشر سنوات بدأت منذ 2018، وحسب المحلل الاقتصادي (أحمد مصبّح) في تصريح أدلى به ل”الخليج أونلاين”: “إن الاقتصاد الإسرائيلي قام على الدعم الأمريكي”.
ثم يأتي دور السياحة كمصدر مهم في عائدات إسرائيل، إذ يمثل قطاع السياحة ما نسبته %3 من الناتج المحلي الإجمالي، إلا أنه وحسب موقع وزارة الخارجية الإسرائيلية فإن قطاع السياحة ” ما زال يملك طاقات كبيرة غير مستنفذة، حيث يعتبر من أهم عناصر برنامج النمو الاقتصادي”.
استراتيجية المقاومة: حين تشكو إسرائيل فقراً من حيث الموارد الطبيعية، ويتبين أن مصدر قوتها الاقتصادية يعود إلى عناصر متغيرة غير دائمة، يعتمد على الصناعة والدعم الخارجي، مما يمكن التأثير عليها، فالسياسة الأمريكية ليست من الثوابت التي نسلّم بها، فيمكن تهديد المصالح الاقتصادية والسياسية الأمريكية في دول العالم العربي والاسلامي عبر سياسة المقاطعة، إلى جانب تصدير خطاب إعلامي موجّه للشعب الأمريكي؛ ليضعه أمام حقيقة مصير أمواله “من الضرائب” التي تذهب إلى إسرائيل لتقتل الفلسطينيين، وأما الصناعات العسكرية فيمكن التأثير عليها وإضعافها من خلال هزّ صورتها أمام أسلحة المقاومة الفلسطينية “القبّة الحديدية خير مثال”، وبالنسبة للصناعات التكنولوجية فهو عنصر متغير كذلك، حيث باتت الصناعات الصينية تنافس السوق العالمي بما تعرضه من إنجازات وأسعار معقولة، ثم عنصر السياحة فيمكن توقيفه أو تجميده إذا استطاعت المقاومة أن تضع إسرائيل في حالة “اللا أمن” بشكل دائم، إضافة إلى تنفيذ حملات تشهير وفضح للسياسات العنصرية لإسرائيل تجوب دول العالم.
- القدرة العسكرية: لا يمكن لأي دولة أن تستغني عن وجود قوة عسكرية تحمي حدودها، وتحافظ على أمنها الخارجي، وقد اعتبرها الزعيم الصيني (ماو تسي تونغ) أنها العمود الفقري للسلطة، في مقولته الشهيرة: “السلطة تنبثق من فوهة البندقية”، وقد ذكر موقع الجزيرة عبر الانترنت، نقلاً عن تقرير للكاتبين (زكاري كيك) و(أخيليش بيلالاماري) نشرته مجلة “ناشونال إنترست” الأميركية، جاء فيه: “أن الجيوش تعد أهم عامل في تقييم القوة النسبية للأمة، ويمكن تحديد أقوى الجيوش من خلال قدرتهم على الانتصار في المعارك بشكل حاسم ومستمر، فضلاً عن المدى الذي سمحوا لدولهم بالسيطرة على الدول الأخرى”
ويقصد بالقدرة العسكرية، تحويل كل إمكانات الدولة- المعطيات الثابتة والمتغيرة- إلى قوة فعلية، قادرة على إسناد الدولة في حالاتها وأوضاعها كافة، ويلحق بهذا المعنى القدرة الأمنية، من حيث عدم وجود أي تهديد أو عائق يمنع من استخدام الدولة لإمكاناتها ومواردها كافة في عملية تنموية شاملة.
وحسب موقع “جلوبال فير بور” الأمريكي، فإن إسرائيل تعتمد على قوة نظامية قليلة العدد تصل إلى 168 ألفاً، وعلى قوة احتياط كبيرة يصل عدد أفرادها إلى 550 ألفاً، وتتنوع القوة العسكرية الإسرائيلية بين قوة جوية هي الأكثر قوة في الشرق الأوسط تبلغ 652 طائرة مقاتلة، بينها 243 طائرة هجومية، و143 مروحية مقاتلة، بينها 48 مروحية هجومية.
ويمتلك الجيش الإسرائيلي 2620 دبابة ونحو 10000 مدرعة، و300 مدفع ميداني، 48 منصة إطلاق صواريخ متعددة، وتضم القوة البحرية 65 قطعة بحرية، منها 6غواصات، 3 كورفيت “طرادات” و32 سفينة دورية، ويوجد في إسرائيل 4 موانئ كبرى.
إضافة إلى ترسانة نووية تضم عدد غير محدود من الرؤوس النووية قد تصل إلى 200 رأس نووي، وعدة مصانع للأسلحة الكيماوية، ومتوقع أن تبلغ ميزانية الجيش الإسرائيلي 20 مليار دولار عام 2020، حسب ما ذكره مركز أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي.
استراتيجية المقاومة: سيكون البعد العسكري هو الأكثر احتكاكاً بين المقاومة وإسرائيل، وعلى المقاومة الفلسطينية أن تتجنب قدر الإمكان من الدخول في حرب طويلة مع إسرائيل، وعليها مقابل ذلك بأن تكتفي بمشاغلة إسرائيل بين الحين والآخر بعمليات مقاومة فردية يتم التحكم بتداعياتها ونتائجها، بهدف أن تبقي إسرائيل في حالة اللا أمن، وفي حال إذا ما فرض على المقاومة الدخول في الحرب، فعليها أن تعتمد سياستين هامتين: أولهما، تحييد عناصر التفوق العسكري للجيش الإسرائيلي، فمثلاً استخدام الأنفاق تحت الأرض يحيّد سلاح الجو، وملاحقة المتخابرين مع المخابرات الإسرائيلية يحيّد مصادر المعلومات الاستخباراتية الحيّة، واستخدامات الاتصال والتواصل التقليدي يحيّد سلاح الإشارة والتنصّت، أما السياسة الثانية، فهي تتعلق بنوع الأهداف التي يجب على المقاومة التركيز عليها، فاستهداف المطارات سيشلّ الحركة في إسرائيل، وتكثيف الضربات الصاروخية “أرض-أرض” لمنطقة الخط الساحلي بين حيفا وأسدود، حيث تقع معظم بنية إسرائيل التحتية الحيوية، حتى لا ننجر خلف الانخداع والاستدراج الإسرائيلي مثلما حصل في عدوان 2014، حين تعالت أصوات الإسرائيليين في خطة إعلامية مدروسة معلنة بأن ضربات المقاومة قد أصابت منطقة الغلاف “الحدود مع قطاع غزة” من خلال ضربات قذائف الهاون، أكثر بكثير مما أصابها في حيفا وتل أبيب، فابتلعت معظم فصائل المقاومة الطُعْم، وقامت بتحويل ضرباتها إلى منطقة الغلاف مع قطاع غزة، وخفّفت إلى درجة تقترب من التوقف التام لضرباتها الموجهة إلى المنطقة الحيوية والخاصرة الضعيفة لإسرائيل “حيفا وتل أبيب”.
كما على المقاومة الفلسطينية ألّا تحصر أدوات المواجهة مع العدوان الإسرائيلي في القوة العسكرية على أهميتها، وأن تنتبه إلى السياقات السياسية والديبلوماسية والشعبية المفترض توفرها خلال العدوان الإسرائيلي، وأن تحرص على توفير الشرط القانوني والتكييف القانوني لكل أعمالها، حتى يتم تقوّية موقفها في الدوائر الأممية والدولية، وسحب الذرائع من الجانب الإسرائيلي.
وعلى المقاومة التركيز على ثلاث استراتيجيات هامة في طبيعة عملها، أولهما: استخدام الجانب الاستخباري والأمني كقوة رئيسة إلى جانب القوة العسكرية، وذلك عبر الجانب الوقائي الذي يهدف إلى احباط الهجمات الإسرائيلية وتصفير بنك الأهداف لدي الجيش الإسرائيلي، والجانب الهجومي من حيث تحديد نوعية الأهداف التي توجع إسرائيل، والاستراتيجية الثانية تتعلق بسرية العمل المقاوم، والتأكيد على أهمية اعتماد السرية في مستوى الصف القيادي الأول، وفيما يخص قدرات المقاومة وما تمتلكه من أسلحة وصواريخ، حتى تحافظ على عنصر المفاجأة والإرباك في الميدان، وأن تتجنب فصائل المقاومة الاستعراضات الميدانية أو الحزبية، أما الاستراتيجية الثالثة فتتعلق بتعدد فصائل المقاومة الحالي، وضرورة إعادة النظر في كثرة هذه الفصائل التي بات بعضها يلعب دوراً مشاغباً في المجتمع المحلي، ومعطّلاً لعمل المقاومة، وأن يُكْتفى بالفصائل التي يثري وجودها سياسة المقاومة في مواجهة العدوان من حيث تخليط الأوراق وتبادل المواقف، بعيداً عن سياسة الانفراد لفصيل دون المجموع الوطني، وعدم احتمالية أن يقوم فصيل بجرّ الساحة الفلسطينية في مواجهة غير محسوب لها من الكلّ الوطني.
- الجغرافيا
تلعب الجغرافيا دوراً كبيراً في سياسة الدول، وعلى الرغم من تراجع أثرها نتيجة ثورة الاتصالات والأقمار الصناعية، إلا أنها لم تفقد قوتها على كينونة الدولة وقدرتها السياسية والاقتصادية، فمثلاً موقع تركيا الجغرافي الذي يربط بين الشرق الروسي والغرب الأوروبي أضاف إليها قوة حضور وتأثير على الساحة الدولية، وتصنّف الجغرافيا من المعطيات الثابتة، على الدولة استثمارها والتكيّف معها، فبريطانيا كونها جزر وسط المياه ترتبط مناعتها بالقوة البحرية، وقد تمكنت من تنفيذ حملاتها الاستعمارية بامتلاكها أسطولاً بحرياً، في حين أجبرت الجغرافيا “جمهورية أفريقيا الوسطى” أن تبقى متصالحة مع جيرانها لعدم وجود أيّ منفذ لها على العالم إلا من خلال الدول المجاورة لها.
يقع معظم سكان إسرائيل، ومعظم بنيتها التحتية الحيوية في شريط ضيق على السهل الساحلي، فإسرائيل تعتبر دولة ضيقة وطويلة من حيث المساحة، حيث تمتد على حوالي 470 كم طولاً، وعلى 135 كم في أكثر المناطق عرضاً، ويحتشد حوالي 80-90% من السكان في منطقة تمتد نحو 120 كم على طول الخط الساحلي بين حيفا وأسدود، وحيث طول حدود إسرائيل المائية (البحر المتوسط- البحر الميت- خليج العقبة) يبلغ 244كم، وتتقاطع حدودها البرية مع أربع دول عربية (الأردن238 كم – لبنان79كم- سوريا 76 كم- مصر265 كم)، إضافة إلى التقاطع والتداخل الكبير مع أراضي السلطة الفلسطينية.
استراتيجية المقاومة: وجود إسرائيل على أرض فلسطين يمكن قراءته من المنظور الجغرافي، بأنه وضع مثالي لمحاصرة إسرائيل وخنقها في المحيط العربي، فيمكن اعتبار إسرائيل أنها محاصرة من كل الجهات: فمن جهة الشمال حيث لبنان، وجهة الشمال الشرقي حيث سوريا، أما الشرق فالأردن، وفي الجنوب الغربي مصر، وأما من جهة الغرب البحر المتوسط، كما يمكن اعتبارها محاصرة بالفلسطينيين الذين قسمتهم الجغرافيا الإسرائيلية إلى قطاع غزة وضفة غربية، إضافة إلى فلسطيني الداخل “فلسطيني ال48″، حتى أن وجود المستوطنات داخل أراضي الضفة الغربية يمكن تحويلها من منظور المقاومة إلى كانتونات إسرائيلية يسهل حصارها، وتوجيه ضربات موجعة لها، على غرار ما حصل في قطاع غزة إبان انتفاضة الأقصى، والتي أجبرت إسرائيل نتيجة ضربات المقاومة بتفكيك مستوطناتها والهروب من غزة بلا رجعة.
وعلى صعيد آخر، فقد قامت إسرائيل بسرقة ونهب الموارد الفلسطينية وتحويلها إلى مخزونها القومي، وخير مثال على ذلك المياه، حيث قامت إسرائيل بتحويل مجرى الأردن لاستصلاح أراضي النقب في الجنوب، ويقدر بأن 90% من ينابيع الضفة الغربية خاضعة للسيطرة الإسرائيلية، وأن إسرائيل تستنفذ 562 مليون متر مكعب من مياه الضفة وقطاع غزة، مما جعل نصيب الفرد الفلسطيني من المياه 27% مقارنة مع نصيب الفرد الإسرائيلي، وهذا ميدان يجب ألّا يسقط من حسابات المقاومة، وخاصة أننا نتحدث عن مصادر تحت الأرض، هي جغرافياً تحت السيطرة الفلسطينية.
- الهوية الوطنية: أو المرجعية الثقافية التي تحدد الشخصية الاعتبارية للدولة، حيث كلما كانت ثقافة وعقيدة الأمة واحدة، كلما كان النسيج المجتمعي قوياً ومتماسكاً، وزاد ذلك من رصيد قوة الدولة وأضاف إليها متانة ومناعة، فدولة مثل لبنان هي دولة ضعيفة من حيث بنيتها ونسيجها الداخلي، والسبب يعود إلى تعدد المرجعيات الدينية والثقافية والطائفية.
وهو الأمر الذي لم يغب عن العقلية الاستعمارية في الوطن العربي، حيث جعلت الأكراد أقليات في كل من العراق وسوريا وتركيا، وعززت من الاختلاف السنّي الشيعي في كل من العراق ولبنان والبحرين واليمن.
وفي إسرائيل وعلى الرغم من إشباع الهوية الإسرائيلية بالمفاهيم التوراتية واهتمام الدولة باليهودي أينما وجد كونه يهودياً فقط، حتى نادوا أخيراً بجعل الدولة يهودية خالصة، كل ذلك لم يمنع من وجود مصادر ضعف تضرب صورة التماسك المجتمعي في إسرائيل، حيث اعتبرت وثيقة (آيزنكوت-سيبوني)، أن أحد العوامل الداخلية التي تهدد الأمن القومي الإسرائيلي تتمثل في تعاظم حدّة التصدعات في المجتمع المحلي على خلفية الاستقطاب الأيديولوجي والسياسي والإثني، وقد أوردت وثيقة “هرتسيليا” ثمانية مرتكزات تقوم عليها إسرائيل، وكان إحداها “الركيزة الاجتماعية” وخلالها اعترفت الوثيقة بفشل السياسات والاستراتيجيات التي هدفت إليها إسرائيل من خلال تطبيقها لتوفير مناعة اجتماعية معتبرة أن المناعة الاجتماعية مركب هام في المناعة القومية لإسرائيل، من خلال تأكيد المفاهيم: الإيمان المشترك بعدالة الطريق، ووحدة الهدف والمصير، والذاكرة الجماعية، والقصص التاريخية وتعزيز رموز الدولة، وإحياء ذكرى “الهولوكست”، والتضامن الاجتماعي القومي.
استراتيجية المقاومة: يمتلئ التراث الإسرائيلي بالأساطير، والإشباع بالنرجسية، وهي تغذي المخيلة الشعبية للإسرائيليين بشكل مستمر، وعلى المقاومة أن تعمل على تحليل هذه المصادر المغذية وتفكيكها بالسياقات التاريخية والشواهد المنطقية، وتوجيه برامج نفسية وإعلامية متكاملة لاستهداف الفرد الإسرائيلي وتشكيكيه فيما يستند عليه من تلك الأساطير، وبالرجوع إلى وثيقة هرتسيليا فإن مكونات الهوية الإسرائيلية تعتمد على ستة عناصر: الإيمان المشترك بعدالة الطريق، ووحدة الهدف والمصير، والذاكرة الجماعية، والقصص التاريخية وتعزيز رموز الدولة، وإحياء ذكرى “الهولوكست”، والتضامن الاجتماعي القومي، وفي كل عنصر من تلك المكونات كثير من المضامين والتفاصيل التي يمكن للمقاومة توظيفها من أجل استهدافها والعمل على خلخلتها واضعافها.
كما أن استبطان ذلك لدى المقاومة يتيح لها الاستفادة من بعض الفرص التي قد تسنح لها، فأسر الجندي الإسرائيلي (شاليط)، وبناء فيلماً وثائقياً محوره الجندي الإسرائيلي “الذي يمثله شاليط” في هذه الحالة، من المؤكد أن النتيجة ستحسم على صعيد البناء النفسي والثقافي لصالح المقاومة الفلسطينية.
وكذلك على المقاومة أن تلتفت جيداً لاستنهاض الإرادة وتعزيز الثقة في المشروع الوطني، حتى نتفوق في العطاء والانتاج على العنصر الإسرائيلي، ومقومات الهوية الفلسطينية أكثر صدق وحيوية مما هو الحال في الشخصية اليهودية.
الخاتمة: على المقاومة الفلسطينية أن تضع لها استراتيجية شاملة في مواجهة المشروع الإسرائيلي، في الوقت الذي يجب ألّا تستثني منه عوامل القوة والإسناد العربي والاسلامي، إلا أنه مطلوب منها تعزيز وجودها كرأس حربة للأمة العربية والاسلامية في محاربة إسرائيل، والعمل على استثمار عوامل القوة لديها في استهداف عناصر القوة ومكونات المشروع الإسرائيلي، وألّا تبقى المقاومة رهينة المواجهات العسكرية مع إسرائيل، فهذه الطريقة برعت فيها إسرائيل، ولن تكون كافية لإيصال المقاومة إلى مرحلة التمكين والتحرير.
وحتى لا يستطيب للمقاومة سياسة الإعداد للمواجهات العسكرية، والرضا بقدرتها العسكرية التي عززت سياسة الردع مع الجيش الإسرائيلي، فإنه من الواجب عليها، أن تبني الخطة الاستراتيجية واستثمار الحقّ الفلسطيني وقوة إرادة المواطن الفلسطيني، وتمتطي السياسة والديبلوماسية لتدخل دوائر صناعة السياسة الغربية، وتتحرّك في المجتمعات الغربية لتحشيد الرأي العام الغربي، وأصوات الناخبين مع القضايا العربية وضد العنصرية الإسرائيلية، وتكون قد سبقت في تحريك العاطفة الوطنية والدينية الكامنة لدى الشعوب العربية والاسلامية تجاه القضية الفلسطينية.
وما تم استعراضه، لا أظنه يكفي لأخذه مأخذ التنفيذ كما هو، وإنما هو حجر رميتُ به في مياه راكدة، حيث تقيّدت المقاومة بنمطية أدواتها، ضبابية طريقها، والعمل على وضعها كإطار عام للمشروع الوطني الشامل، حتى إذا ما تم التوافق عليه من قبل فصائل العمل الوطني، يمكن بعدها كتابة التفاصيل، وإرفادها بالشواهد والبيانات اللازمة.
لقد آن الأوان في أن يتوحد الشعب الفلسطيني في مختلف أماكن تواجده، على مشروع المقاومة الشاملة، والانطلاق نحو الهدف: “الانتصار على إسرائيل”.
الكاتب/ أ. محمد عبدالله لافي