حماس ليست مجموعة دراويش سذج!!
الاختلاف الفلسطيني وصل حداً من التناكر والدموية ما ينتج عنه أمران اثنان؛ أولهما: أن الحل لم يعد وراء الباب أو تكفي فيه النيات الطيبة وحرص طرف واحد عليه بل لا بد من التخطيط الصحيح له وأن تنضج الرغبة والحاجة إليه من كل الأطراف وأن يقتنعوا أن الحوار والاتفاق مصلحة ذاتية وشخصية ثم وطنية (بعد انقلاب الأولويات لدى الكثيرين!)، وثانيهما: أن فشل الحوار ستكون له عواقب وخيمة على القضية وعلى الفصائل وعلى المنطقة إذا أخذنا بعين الاعتبار قدرة العدو واستراتيجيته في الاستثمار في الدم الفلسطيني وإذا اعتبرنا العدو الصهيوني خطراً على الجميع واتفقنا على أن نجاحه في إشعال الوضع الفلسطيني سيؤثر استراتيجياً على كل معادلات الاستقرار في المنطقة وأن القضية الفلسطينية لها الصدارة والمركزية في وجدان كل الأمة..
من هنا فإن الجميع داخل وخارج فلسطين صار اليوم أمام لحظة حاسمة غاية في الجدية والخطورة، وصار على الجميع أن يفكروا وينهجوا بعيداً عن الأنانية والحسابات الصغيرة والنكايات الحزبية واللف والدوران والمناورات السياسية والتذاكي الخبيث الذي يفسد أكثر مما يصلح.. ما يجعل أية دعوة لحوار فلسطيني – إذا لم تكن جدية وصادقة – أشد خطورة من الوضع القائم على حلكته وسوداويته.. وللأسف فدعوة الرئيس عباس لم تأت في هذا الوارد على الإطلاق ولم تتجاوز أياً من العقد والتعطيلات التي تكررت في كل دعوة حوار سابقة.. فالحوار الفلسطيني بالنظر لخصوصية الحالة الفلسطينية وبالنظر لأسباب الانقسام وتداعياته لا بد أن تتوافر له ثلاثة مقومات مبدئية هي للأسف غير متوافرة في دعوة الرئيس وترويجاته.. وهي:
أولاً: أن تكون الجهة الداعية والراعية لحوار من هذا النوع وعلى هذا القدر من الخطورة محايدة وفي بلد محايد! أما مصر – ومع الاحترام لمكانها ومكانتها – فلا تمتلك القدرة على التأثير الإيجابي على المتخاصمين أو على حماس – في الحد الأدنى – وهي المتحيزة لمحمود عباس شخصياً ولحركة فتح فصائلياً، وهي – أي مصر – التي رفضت الاعتراف بحكومة حماس الأولى وحكومة الوحدة الوطنية التي شاركت فيها بعد ذلك ولم تتعامل مع وزرائها أو رئيسهم بما تقتضيه الأعراف الديبلوماسية كشخصيات رسمية فضلاً عن إيوائها المجرمين من قادة التيار الخياني في فتح الذين خططوا لاغتيال السيد هنية والذين لا يزالون يعبثون بالأمن الفلسطيني.. وذلك كله شيء وكونها – أي مصر – على علاقات ديبلوماسية مع العدو وتنهج نهج المفاوضات والتسوية شيء آخر ما يجعل حماس لا تثق في حياديتها عند طرح قضايا (المفاوضات مع العدو ومحدداتها وسقوفها وبدائلها، وإلزامية القرارات الدولية، والمنظمة وكيفية إصلاحها، والمقاومة ومبرراتها وأدواتها) .. ذلك يعني – وبدون مبالغة ولا بقصد الشتيمة – أن مصر لا تمتلك سلطة معنوية أو أخلاقية لإدارة ورعاية وإنجاح حوار فلسطيني يبني استراتيجية ناجحة وواقعية ولا هي – أي مصر – بالمكان ولا الجهة المرشحة لتطويق خلافات صارت على هذا القدر من التباين والدموية.. هذا لا يعني أننا ننكر وزنها السياسي عموماً أو في مفاوضات مع العدو فذلك أمر آخر ويأتي في سياق آخر وعلى قواعد عمل مختلفة وليس مجال بيانها الآن.. إذن وحتى لو وافقت حماس على اللقاء في مصر فإنما تقبل عن اضطرار لا عن قناعة في حين أن المطلوب اليوم هو اتفاق مخلص وصادق ومقنع ويتجاوز المجاملات ولا يخضع للضغوط..
ثانياً: ضرورة الصدق والإخلاص الواجب لتطويق التداعيات.. وألا يتذاكى الرئيس الفلسطيني فيدعو أربعة عشر فصيلاً وتنظيماً وتشكيلاً بعضها لا يرى بالعين المجردة ولا (تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزاً) يدعوهم ليجلسوا على قدم المساواة مع حماس ويتحول وزنها الشعبي والسياسي من 70% أفرزته الانتخابات (بأنواعها) إلى واحد من أربعة عشر .. ولماذا تدعى تنظيمات ليست في التشريعي أساساً ولا هي في المعارضة ولا في الحكومة إذا اعتبرنا المشكلة بين الرئاسة والحكومة أو كانت المشكلة بين فتح وحماس فما وزنها وما أدواتها للتأثير على الطرفين أو أحدهما؟ ولكن العجب يزول عندما تستعرض أسماء هذه التنظيمات وأمنائها العامين ثم تكتشف أنها إما من بقايا يسار مجير أو خصوم تاريخيين للإسلام كفكرة وكمنهج ثم كمعطيات سياسية، أو مرتزقة – بالجملة والمفرق – ولا يخفون عداءهم لحماس وولاءهم لفتح ولا يرون الأمور إلا بعينها .. وإذن فالمراد الحقيقي من تسمية أربعة عشر تنظيماً ليس بريئاً ولا المراد منه تعميم الحوار وتعميقه بل تعويمه (ومطمطته)! وإنما يؤتى بهم لتكثير سواد حركة فتح لمقارعة حماس (رأساً لرأس) ثم يضيع دمها بين القبائل- كما يقال – وتبدو كما لو كانت ضد المجموع الفلسطيني.. أقول: إن هذا التذاكي مكر سيئ لا يناسب طبيعة المرحلة والحد – الدموي – الذي وصلت إليه الأزمة..
ثالثاً: أن تتوقف فتح والرئاسة عن لعب دور الاستهبال الذي تعجز عنه مع الاحتلال ولا تزال تحاوله مع حماس فلا يزال الرئيس وحركة فتح ومن لف لفهما يتعاملون مع حماس على أنها حماس لا كحكومة ولا يزالون يرفضون الاعتراف بشرعية تمثيلها الدستوري، وفي هذا السياق يأتي اشتراط الرئاسة أن تعود الأوضاع – في غزة فقط – لما كانت عليه قبل ما يسمونه الانقلاب، ويرفضون أن ينسحب ذلك على ما جرى ويجري في الضفة، وتأتي المطالبة بإعادة الانتخابات التي يسمونها مبكرة بهدف تغيير النتائج والفكاك مما يترتب على كونها أكثرية، وتأتي المطالبة بأن تعترف حماس بالاتفاقات التي عقدتها المنظمة وأن تتنازل عن أيديولوجيتها الفكرية وأجندتها السياسية قبل قبولها في المنظمة، وكل هذا عكس للمنطق الصحيح ورفض لمبدأ التغيير واستبداد بأجندة فرضها الاحتلال .. والصواب الذي لا يستطيع أحد أن يجادل فيه (حماس أو غيرها) هو إيجاد رؤية لإصلاح المنظمة قبل المطالبة بقبولها لتكون وعاء يتسع لكل الخلافات وآلية تبوتق الرأي العام الفلسطيني تحت سقف المشروع الوطني التحرري الذي لا يجور فيه فصيل على فصيل ولا يستولي فيه جيل على جيل وليس تحت السقوف المنخفضة التي فرضها الاستبداد الفتحاوي في لحظة احتلالية بامتياز..
أقول: إذا كان العنوان الذي تأتي تحته كل هذه الدعوات (المشبوهة والمضللة) والجامع المشترك بينها هو عدم الاعتراف بالتمثيل الدستوري لحماس وكان العمل على إخراجها من ذاتها وبرنامجها والضغط عليها لتدير الظهر لجمهورها والواثقين بها وأن تقوم بلف الحبل حول عنقها.. فإن حماس تصدق إذ تقول لا جديد في هذه الدعوة، وأن تعتبر لحظة بداية الحوار هي نفس لحظة توقف مشروعها التحرري وخنقها وإعدامها ويصير من حقها أن تتخوف من أنهم يتآمرون على إنجازاتها.. ذلك كله يبرر لها أن تتملص أو حتى أن ترفض صراحة هذه الدعوات!! وأقول أيضاً: لقد شبع الشعب الفلسطيني من اتفاقات الطبطبة واللملمة التي تولد ميتة أو تقتل في مهدها..
آخر القول: إذا كان الحوار الفلسطيني الجدي والمجدي قد أصبح ضرورة سياسية وفريضة شرعية فإن فشله – إن فشل – سيفتح أبواب شر كثير ويزيد الاستعصاء بين الفرقاء وهو ما يجب أخذه بالجدية اللازمة.. وإن لحماس – اليوم – واقعها الذي انتزعته انتزاعاً من عدوها ولها جمهورها الملتف بوعي حولها والذي لن يتنازل عن مكتسباته معها وهي ليست – كما يظن البعض – مجموعة من المشايخ البله والعباد الزهاد .. ومن هنا فالأقرب والأصوب والأنقى والأبقى الإقبال على حوار حر، يحترم الخلافات ويتعاطى مع المتغيرات، وإذن فلا حرج من القول: إنه إذا لم تتوافر البيئة والظروف التي تنجح الحوار وتحد من إمكانية القتال مستقبلا فإن (درء المفاسد مقدم على جلب المصالح) فليبق كل شيء في مكانه ولا حاجة لإنفاق الحوار لغير حله وفي غير محله..