التهدئة وقاموس الخصوصية الفلسطينية
الذين يبحثون عن تصنيف للحالة الفلسطينية، وفقاً للنماذج المقولبة والنظريات المأثورة المتراكمة من قراءة التجارب الإنسانية العامة في الاستعمار والتحرير، قد يصابون بخيبة فكرية ثقيلة.
هذا لا يعني أننا إزاء حالة مختلفة بالمطلق، فثمة خصائص عامة لا يمكن استبعادها عند النمذجة والتنظير. لكن المؤكد أن القياس الخطي وعمليات المقارنة الجافة بين مسيرة حركة التحرر الفلسطيني وما يظن البعض أنه نظائرها في عوالم الآخرين، لا يصلح لاستطلاع آفاق هذه المسيرة. بل وربما انطوت بعض نتائجه وتحليلاته على أخطاء.
لهذا التفرد، وهو عندنا لا يعني الامتياز، أسبابه الموضوعية التي يعود معظمها إلى طبيعة الصراع في فلسطين ومن حولها. ففي هذه الطبيعة نعثر على توليفة نادرة من التعقيدات، لنواحي البواعث والجذور والأبعاد والأطراف والمصالح وأنماط الحلول المتداولة..
هذا علاوة على ما يفرضه موقع الصراع وموضعه على صعد الخرائط السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وما يتصل بذلك كله من عناصر منظورة وغير منظورة، مادية وروحية وإيديولوجية..
نحن في كل حال بصدد نوعية من الصراع ربما تمثل نسيجاً لوحدها.
وفي تقديرنا أن المقارنات التي تنطلق من قراءة تجارب الاستعمار الاستيطاني، التاريخية منها (كنموذج الاستيطان الإفرنجي في فلسطين وجوارها) والأقرب من ذلك زمنياً (الأميركتين وأستراليا..)، وصولاً إلى ما يوشك أن يزامن الحالة الفلسطينية (الجزائر وجنوب أفريقيا وزيمبابوي..)، هذه المقارنات قد ينالها شيء كثير من العيب، إن هي انتقلت من فكرة التشابه الجزئي إلى منظور المطابقة. وهذا خطأ منهجي استُدرج إليه كثير من الدراسات المقارنة.
ما نبغيه بهذه التعميمات، هو لفت الانتباه إلى صعوبة عمليات الاستشراف والتوقع بالنسبة لحاضر القضية الفلسطينية ومستقبلها، إذا ما اعتمدت هذه العمليات فقط على المستقر في متون دراسات حركة الاستعمار والتحرير. بديل ذلك بشكل أكثر معقولية وصدقية، هو مطالعة الحالة الفلسطينية من داخل مسارها. وذلك بالطبع من دون العزوف الكامل عن تلك المتون، ومحاولة الإفادة من مطالعتها واستلهام دروسها.
إذا أخذنا بهذه المنهجية لمقاربة حديث التهدئة المتفاعل حالياً، فإنه يتعين علينا قبل كل شيء ملاحظة الخط البياني للمقاومة الفلسطينية العربية الممتدة للمشروع الصهيوني. وبهذا المعنى تمثل التهدئة محطة، على خط حركة نضالية ظل صاعداً وهابطاً أو رتيباً، لكنه لم ينقطع على مدار أكثر من مئة عام. فعدم القطيعة هذه تطمئننا ابتداء على مستقبل المقاومة الفلسطينية عموماً. كما أنها تؤكد للغيورين على مفهوم المقاومة أن خفوتها أو حتى توقفها، لعلة أو أخرى كالتهدئة الحالية، إنما هي طوارئ مؤقتة، طالما لم تتحقق الأهداف المقصودة منها.
هذا ما تقول به النظرة الشاملة لحركة التحرر الفلسطيني. ولو أن القوى الصهيونية ومحالفيها توخوا تقييم هذه الحركة تأسيساً على هذه النظرة، لما أرهقوا أنفسهم سعياً خلف هدف ثبت يقيناً أنه مستحيل الوقوع، وهو إعلان وفاة المقاومة الفلسطينية وتشييعها إلى الأبد، واستسلام الشعب الفلسطيني بالذات، داخل الدائرة العربية الإسلامية الحضارية، للمشروع الصهيوني بحرفيته وأصوليته.
لعله من المثير حقاً، أن القائمين على هذا المشروع وكيانه السياسي، هم للوهلة الأولى والأخيرة، من أكثر الخلق استناداً إلى التاريخ، الحقيقي منه والمؤسطر (من الأسطورة إن جاز التعبير!).. ومع ذلك فإنهم لا يعيرون السيرة التاريخية الذاتية للمقاومة الفلسطينية ـ والعربية أيضا ـ الاهتمام الذي تستحقه.
والظاهر أن منهجية تجزئة قضايا الصراع ومساراته ومراحله، قد أثرت على تناول التحالف الاستعماري الصهيوني لهذه السيرة بالقطاعي، الأمر الذي أضله عن تفهم مغزاها ودلالاتها. وأحسب أننا غير مطالبين بالتعامل بالمنهجية المبتسرة ذاتها.