الخلفيات التاريخية والاجتماعية والسياسية لنشأة الحركة الصهيونية
الخلفية التاريخية للحركة الصهيونية
بلا شك فإن أية ظاهرة سياسية أو اجتماعية إنما هي وليدة مجموعة من العوامل المتفاعلة داخل إطار المجتمع الذي نشأت فيه، وإذ أننا أمام ظاهرة نشأت وتفاعلت مع المجتمع الأوروبي، وتأثرت بالحركات الدينية والسياسية والاقتصادية الأوروبية، ترافقت مع تحولات ثقافية وقيمية وتنظيمية في الجاليات اليهودية داخل أوروبا، مما أدى إلى توفر الظروف الملائمة لنشأة الحركة الصهيونية، وتدشين العمل للمشروع الصهيوني في فلسطين، فمن المعلوم بأن الغالبية الساحقة ليهود العالم عند نهاية القرن التاسع عشر كانت توجد في العالم الغربي وخاصة أوروبا، ومن ثم فإنهم جزء من تاريخ العالم الغربي، ومن ثم فإن الصهيونية إحدى ثمار حركيات وآليات المجتمعات التي ينتمي لها هؤلاء اليهود الصهاينة.
ولاستعراض الخلفيات التاريخية السياسية الاجتماعية والاقتصادية التي شملت الأرضية لانطلاق المشروع الصهيوني، لا بد من تناوله من زاويتين، زاوية التطورات في المجتمع الأوروبي، وزاوية التطورات في التجمعات اليهودية في أوروبا.
أولاً: التطورات على الصعيد الأوربي :
فقد شهدت أوروبا ابتداءً من القرن السادس عشر ما يسمى (الانقلاب التجاري) إذ بدأ العمل التجاري الذي كان هامشياً في الهيمنة على الاقتصاد الزراعي الإقطاعي وأعاد صياغة الإنتاج وتوجيهه بحيث خرج به عن نطاق الاكتفاء الذاتي وسدّ الحاجة، وبدأ التجار يلعبون دوراً هاماً في توجيه سياسات الحكومات.
وواكب هذا حركة الإصلاح الديني التي أعادت تعريف علاقة الإنسان بالخالق وبالكتاب المقدس عند النصارى، بحيث أصبح بإمكان الفرد أن يحقق الخلاص بنفسه لنفسه خارج الإطار الكنسي الجمعي، ودون الحاجة إلى رجال الدين، ونجم عن ذلك المذهب البروتستانتي الذي مهد لاعتماد العهد القديم(التوراة) باعتباره جزءاً من الاعتقاد المسيحي، والذي أسس بدوره لعلاقة ذات نمط وإطار جديد للعلاقة بين المسيحية واليهودية، والتي كانت تتسم بالعداء والتوتر، والتقت بذلك العقيدة الاسترجاعية للطرفين ولكن كل من زاويته الخاصة، وكانت نقطة الالتقاء الأساسية هي إقامة كيان ودولة لليهود في فلسطين.
نتج عن هذه الانقلابات التجارية والصناعية والسياسية والدينية نتائج كثيرة متنوعة تتفاوت في أهميتها. ولكن أهمها، من منظور دراسة الحركة الصهيونية، النتائج التالية:
1) ساهم الإِصلاح الديني وظهور النزعة الإِنسانية (Humanism) في تفجير طاقات الإِنسان الغربي ورغباته وشهواته، وظهور ما سُميّت بـ (المسألة الغربية)، أي حاجة الإنسان الغربية (الشرهة) إلى المواد الخام والأسواق والأراضي التي تصلح لتوطين الفائض البشري.
2) نظراً لاتساع نفوذ أوروبا (ولأسباب أخرى) دخلت الخلافة العثمانية مرحلة الأزمة وأصبح سقوطها وشيكاً. وظهرت مشكلة تقسيم تركة رجل أوروبا المريض وهذا ما يطلق عليه (المسألة الشرقية).
3) أدت الثورة التجارية الصناعية والنزعة القومية في أوروبا، إلى ظهور ما يسمى بـ “مسألة اليهودية“:
أ- تضاءل دور اليهود، بعد فقدان المرابي اليهودي التقليدي لدوره، وظهور النظام الاقتصادي والمالي الحديث.
ب- بعد تعاظم الوجود اليهودي في روسيا بعد ضم أجزاء من بولندا إليها، حيث كانت تعيش اكبر جالية يهودية، ونظراً لظهور النزعة القومية المتعصبة، والتي ترى أن المجتمع يقوم على وحدة الدم والأرض، ومشاركة فتاة يهودية في محاولة اغتيال القيصر، صدرت العديد من القوانين التي تقيد حياة اليهود كأقلية متآمرة، غريبة عن الدين والقومية الروسية، مما عرضها للاضطهاد وخاصة بعد صدور قوانين عام 1882 الخاصة باليهود.
ت- انعزال اليهود عن المجتمعات الأوروبية، وتحدثهم اليديشية في وسط سلافي، وعقلية الجيتو الانعزالية التي تتسم بثنائية حادة تقسم العالم إلى يهود (أخيار) وأغيار (أشرار)، عزز الرغبة المتبادلة لليهود والأوروبيين لتغيير الواقع القائم بحل المسألة اليهودية والغربية، على حساب الشرق.
ث- رغم أن أوروبا أصبحت طاردة للوجود اليهودي، ورغم الهجرة الواسعة من أوروبا الشرقية إلى أمريكا، إلا أن الزيادة السكانية لليهود كانت الأعلى في أوروبا، لهذا لم تحد موجات الهجرة هذه من الأعداد الكبيرة لليهود فيها.
ج- اندلعت موجات من معاداة الأقليات في أوروبا منتصف القرن التاسع عشر، نتيجة للخطاب والرؤية الاستعمارية للأوروبيين، ورغم أن العنصرية الغربية كانت موجهة بالدرجة الأولى ضد شعوب آسيا وإفريقيا (السوداء والصفراء والملونة) إلا أن الأقليات الأوروبية نالها نصيب وافر من العنصرية مثل الإيطاليين، والبريتون في فرنسا، والكاثوليك في دولة بروتستانتية مثل ألمانيا، والغجر في كل أنحاء أوروبا، وقد نال بعض أعضاء الجماعات اليهودية نصيب من هذه العنصرية باعتبارهم قتلة المسيح وأعضاء جماعة غير مرغوب فيها.
4) نظرة الأوروبيين لليهود باعتبارهم كتلة سكانية ذات خصائص مميزة يمكن توظيفها بما يخدم الأهداف الاستعمارية الأوروبية، وهي نظرة تكرست عبر أجيال وثقافة الأوروبيين الدينية والاجتماعية، ويمكن تصنيف هذه النظرة إلى مفهومين رئيسين هما:
أ- الشعب العضوي:
هو شعب يرتبط أعضاؤه فيما بينهم وبأرضهم بأواصر عضوية لا يمكنهم الفكاك منها. فقد نظرت الحضارة الغربية إلى اليهود لا باعتبارهم مجرد أقلية أو جماعة دينية، وإنما باعتبارهم أعضاء في شعب عضوي له صفاته الخاصة، المقصورة عليه، وبعض هذه الصفات إيجابية ولكن معظمها ـ في المنظور الغربي ـ سلبي ومن أهمها أن اليهود يرتبطون عضوياً بفلسطين، ومن ثم فهم لا ينتمون إلى التشكيل الحضاري الغربي ويقفون على هامش التاريخ الغربي، ويشكلون عناصر طفيلية لا جذور لها. وقد نظر العالم الغربي إلى أعضاء الجماعات اليهودية باعتبارهم وسيلة لا غاية، ففي الصياغة الدينية الكاثوليكية يعتبر اليهود شعباً شاهداً تدل ضعته وتدنيه على عظمة الكنيسة وانتصارها. والصياغة البروتستانتية تعتبر اليهود عنصراً ضرورياً في عملية الخلاص التي لا يمكن أن تتم إلا بإرجاعهم إلى فلسطين وتنصيرهم، (وهذا ما يسمى «العقيدة الاسترجاعية»). ولا تختلف الصياغة العلمانية اللادينية كثيراً عن ذلك. إِذ ينظر الغرب لليهود على أنهم عنصر يمكن استخدامه في المشاريع التجارية والاستيطانية لما لهم من قدرات تجارية خاصة، فهم مادة بشرية يمكن توظيفها لصالح الغرب.
ب- الجماعة الوظيفية
هي مجموعة من البشر يستورد أعضاؤها من الخارج ليضطلعوا بوظيفة محددة، إما لأنها مشينة (البغاء)، أو متميزة (القتال) أو صعبة ولا يمكن أن يقوم بها أعضاء المجتمع (الاستيطان)، أو مهمة وحساسة (الوظائف الأمنية). ويدخل المجتمع المضيف مع أعضاء الجماعة الوظيفية في علاقة تعاقدية، يصبحوا بمقتضاها شخصيات وظيفية نافعة تعرف في إِطار وظيفتها لا في إِطار إِنسانيتها المتعينة، فهم وسيلة لا غاية. وقد شغل أعضاء الجماعات اليهودية دور الجماعة الوظيفية في الحضارة الغربية فاشتغلوا بالربا والتجارة. وعادة ما يظل وضع الجماعة الوظيفية مستقراً حتى يكون المجتمع في حاجة إِليها. ولكن يختلف الوضع تماماً حينما تطرأ تغيرات اجتماعية واقتصادية وسياسية تجعل المجتمع أقل احتياجاً للجماعة الوظيفية، أو في غنى عنها تماماً، فيتحول أعضاء الجماعة من جماعة هامشية إلى جماعة منبوذة.