تبلور الفكر الصهيوني في الفكر والسياسة الغربية
هذا هو الإِطار العام لمولد الصهيونية كفكر وممارسة، وقد ظهرت الفكرة أول ما ظهرت في الأوساط البروتستانتية في إنجلترا ابتداءً من أواخر القرن السادس عشر (ويطلق على هذه النزعة اسم الصهيونية المسيحية، وهي تمارس الآن بعثاً جديداً في الولايات المتحدة وخصوصاً في بعض الأوساط البروتستانتية «الأصولية» المتطرفة). ومع تزايد معدلات العلمنة في المجتمعات الغربية، ظهرت نزعات ومفاهيم صهيونية في أوساط الفلاسفة (ولا سيما الرومانسيين) والمفكرين السياسيين والأدباء العلمانيين، تنادي بإِعادة توطين اليهود في فلسطين باعتبار أنهم شعب عضوي منبوذ، وتطورت الفكرة لتتجاوز الهامشية والضبابية، ولتتحول إلى فكرة مركزية في الوجدان السياسي الغربي.
فمن المعلوم أن اليهود في معظم تاريخهم لم يرتبط وجودهم بإطار جغرافي محدد، وبالتالي فالأرض لم تكن تمثل جزءاً من هويتهم الحضارية، بالنظر إلى تعدد المراكز الجغرافية التي أقام فيها اليهود – إذا استثنينا الفترة التي أقام اليهود فيها في فلسطين- ولذلك فإن الحديث عن الشخصية اليهودية بين الأقليات اليهودية، المبعثرة في كل أنحاء العالم، والتي تخضع لمؤثرات مختلفة، أمر ليس باليسير.
إن للحضارة الغربية بوجه خاص، أثر كبير في صياغة أفكار وفلسفة الحركة الصهيونية، إذ إن الأخيرة قد نشأت في أوروبا، وكانت تعبيراً عن محصلة الأفكار والفلسفات الاجتماعية والسياسية المنتشرة في القرن الثامن والتاسع عشر، ولا ننفي بذلك الخصوصية المتمثلة بالتراث الثقافي اليهودي، ولكن الذي نميل إليه أن الصهيونية كحركة سياسية استعمارية، تم صياغة أفكارها بشأن القومية اليهودية واستعمار فلسطين، كنتاج للمناخ الاستعماري الذي ميز السياسات الغربية في القرن التاسع عشر.
ولقد أثبت التاريخ أن معظم اليهود لم يقصدوا فلسطين في هجراتهم، على الرغم من أن أبواب فلسطين كانت مفتوحة لهم وإنما كانت وجهة الغالبية منهم العالم الجديد بحثاً عن الثروة والذهب، وما كان للروابط الروحية المزعومة بفلسطين أن تتحول إلى حركة صهيونية تعمل على إقامة كيان لليهود، إلا بفعل المخطط الاستعماري الغربي الذي كان يقصد استغلال المنطقة العربية والتي تعتبر من الناحية الاستراتيجية بوابة أوروبا على آسيا فضلاً عن غناها بالموارد الطبيعية.
ويمكن القول بأن عملية بلورة منظومة الفكر الصهيوني غربياً تمت على يد كل من اللورد شافتسبري (1801 ـ 1885) والسير لورانس أوليفانت (1829 ـ 1889).
واللورد شافتسبري هو واحد من أهم الشخصيات الإنجليزية في القرن التاسع عشر، فقد كان يعد أحد أهم أربعة أبطال شعبيين في عصره. وكان بالإِضافة إلى ذلك فهو شقيق زوجة رئيس الوزراء بالمرستون الذي كان يثق فيه تماماً ويأخذ بمشورته. وقد كان شافتسبري زعيم حزب الإنجيليين الذين كانوا يحاولون تنصير اليهود، ولذا نجد أن اليهود كانوا أحد الموضوعات الأساسية في تفكيره، ومحط اهتمامه الشديد. وموقف شافتسبري من اليهود موقف صهيوني نموذجي:
1) كان شافتسبري يخلط بين العناصر الاجتماعية والدينية والتاريخية، ويتداخل في عقله الوقت الحاضر بالزمان الغابر بالتاريخ التوراتي. ولذا، فقد كان يرى اليهود باعتبارهم شعباً مستقلاً وجنساً عبرياً يتمتع باستمرارية لم تنقطع، أي أنه يدور في إطار فكرة التاريخ اليهودي.
2) لكن اليهود في التراث المسيحي هم قتلة المسيح، ولذا نجد صورتهم سلبية في كتابات شافتسبري، فهم جنس «من الغرباء»، «متعجرفون، سود القلوب، منغمسون في الانحطاط الخلقي والعناد والجهل بالإنجيل». وليسوا سوى «خطأ جماعياً»، وينبغي عليهم العودة إلى الإيمان بالمسيح حتى تبدأ سلسلة الأحداث التي ستؤدي إلى عودة المسيح الثانية وخلاص البشر.
3) انطلاقاً من هذا الخليط الفريد من الأطروحات السياسية والدينية والعرقية عارض شافتسبري منح اليهود حقوقهم المدنية والسياسية.
4) ومع هذا لاحظ شافتسبري أن هذا الشعب يمكن توظيفه في خدمة الإِمبراطورية الإنجليزية للأسباب التالية:
أ- اليهود مادة استيطانية جيدة «فهو جنس معروف بمهارته ومثابرته الفائقة، ويستطيع أعضاؤه العيش في غبطة وسعادة على أقل شيء، فهم قد ألفوا العذاب عبر العصور الطويلة».
ب- اليهود مشهورون بحب المال والجشع والبخل وعندهم رؤوس أموال.
ت- لاحظ شافتسبري أن ثمة علاقة بين هذا الشعب وبقعة جغرافية محددة هي فلسطين، فبعثهم لا يمكن أن يتم إلا هناك، كما أن وجودهم في هذه البقعة يمثل ـ كما تقدم ـ عنصراً حيوياً في الرؤية المسيحية للخلاص. وكما قال: «إن أي شعب لا بد أن يكون له وطن. الأرض القديمة للشعب القديم». ثم طور هذا الشعار ليصبح «وطن بلا شعب، لشعب بلا وطن».
ث- كما لاحظ شافتسبري أهمية سوريا (وضمنها فلسطين) لإنجلترا ومدى حاجتها «لإِسفين بريطاني هناك».
هنا يصل شافتسبري إلى النتيجة المنطقية لمقدماته وهو أنه بوسع اليهود القيام بهذه المهمة على أكمل وجه، «فعودتهم لاستعمار فلسطين أرخص الطرق وأكثرها أمنا للوفاء بحاجات هذه المناطق غير المأهولة بالسكان. وهم سيعودون على نفقتهم الخاصة دون أن يعرضوا أحداً ـ سوى أنفسهم ـ للخطر». وسيعود هذا بالفائدة لا على إنجلترا بمفردها وإنما على العالم المتمدن (أي الغربي) بأسره.
وعلى الرغم من أن هذه الأفكار طرحت قبل عشرين سنة من ميلاد هرتزل فإن كل ملامح المشروع الصهيوني موجودة فيها، ولا سيما فكرة توظيف وضع اليهود الشاذ داخل المجتمعات الغربية في خدمة هذه المجتمعات عن طريق نقلهم. وقد لاحظ الصهيوني الروسي سوكولوف ـ بحق ـ أوجه تشابه بين كتابات شافتسبري وبرنامج بازل.
ويلاحظ أن شافتسبري لم يكتف بالصياغات النظرية الصهيونية بل لعب دوراً نشطاً وفعالاً، فكان يكتب المذكرات التفصيلية المحددة لبالمرستون. ومن المعروف أن أول قنصلية إنجليزية في القدس تم افتتاحها نتيجة لإِلحاحه وبناء على توجيه منه، كما أنه ترأس صندوق استكشاف فلسطين الذي قام أعضاؤه بكتابة الدراسات المكثفة عن آثار فلسطين من منظور إِنجيلي استرجاعي. وعلى الرغم من أن شافتسبري كان يستخدم صياغات تبشيرية واضحة فإِنه كان مدركاً لضرورة تأكيد الأبعاد الجغرافية والسياسية والنفعية لمشروعه حتى يلقى قبولاً لدى صانع القرار الغربي.
أما الشخصية الثانية المهمة فهو سير لورانس أوليفانت صديق لورد شافتسبري الذي عمل في السلك الدبلوماسي البريطاني بعض الوقت في الشؤون الهندية، وكان عضواً في البرلمان الإنجليزي. وينطلق أوليفانت ـ شأنه شأن معظم الصهاينة ـ من فكرة الشعب العضوي المنبوذ، فاليهود جنس مستقل يتسم أعضاؤه بالذكاء في الأعمال التجارية والمقدرة على جمع المال، ولكن وجودهم داخل الحضارة الغربية أمر سلبي، إِذ إن جذورهم في فلسطين،
ولذلك دعا بريطانيا إلى تأييد مشروع توطين اليهود، لا في فلسطين وحسب، وإنما في الضفة الشرقية للأردن كذلك وكان المشروع يتلخص في إنشاء شركة استيطانية لتوطين اليهود برعاية بريطانية وتمويل من الخارج ويكون مركزها استنبول (وقد لاحظ بن هالبرن، وهو أحد المؤرخين المحدثين للصهيونية ومن المؤيدين لها، أوجه الشبه بين هذه الخطة واقتراحات هرتزل فيما بعد).
وكانت صهيونية أوليفانت تتسم بالعملية والحركية، فاتجه إلى فلسطين للبحث عن موقع مناسب للمستوطن المقترح، واختار منطقة شرق الأردن في شمال البحر الميت وتسمى منطقة جلعاد في التوراة (العهد القديم)، ثم اتجه إلى استنبول (مع ادوارد كازلت الممول الإنجليزي اليهودي) لعرض مشروع سكة حديد وادي الفرات، وقدما طلبه إلى السلطان بإِعطاء اليهود قطعة من الأرض بعرض ثلاثة كيلو مترات على حافتي الطريق المقترح.
وكانت تربط أوليفانت علاقة بعدد من الزعماء الصهاينة في شرق أوروبا، ويبدو أنه لم يكن بعيداً عن تأسيس جماعة الـ «بيلو» الصهيونية اليهودية. وقد قام بطرح مشروعهما للحصول على قطعة أرض في فلسطين على السلطان العثماني. وحضر أحد مؤتمرات جماعة أحباء صهيون، كما عارض الجهود التي كانت تبذلها جماعة الأليانس لتهجير اليهود إلى الولايات المتحدة لإِنقاذهم، وقام بجمع توقيعات من اليهود على عريضة يؤكدون فيها رغبتهم في الهجرة إلى فلسطين لا إلى غيرها من البلدان. وقد نجح أوليفانت بالفعل في تهجير سبعين يهودياً من أصحاب الحرف إليها.
وفي عام 1880 نشر كتابه أرض جلعاد الذي نادى فيه بضرورة توطين اليهود في فلسطين، وشرح أبعاد فكره الصهيوني الذي أسلفنا الإشارة إليه. ولعل من إسهامات الكتاب الأساسية مشروعه الخاص بسكان البلاد من العرب. فبعد أن عبر أوليفانت عن عدم تعاطفه مع العرب باعتبارهم مسؤولين عن إفقار فلسطين، قسمهم إلى قسمين: بدو وفلاحين، واقترح طرد البدو ووضع الفلاحين في معسكرات مثل معسكرات الهنود في كندا، على أن يتم استخدامهم مصدراً للعمالة الرخيصة تحت الإِشراف اليهودي. وقد ترجم سوكولوف الكتاب إلى العبرية عام 1886 ووزع منه 12000 نسخة، وهو رقم قياسي بالنسبة للمنشورات العبرية آنذاك.
وقد عاد أوليفانت إلى فلسطين ليساعد المستوطنين الصهاينة، وكتب مجموعة من المقالات عن المستوطنات الصهيونية. ووضع كتاباً بعنوان حيفـا أو الحياة في فلسطين الحديثة، ومات في هذه المدينة الفلسطينية عام 1888.
وتتميز صهيونية أوليفانت عن صهيونية شافتسبري باقترابها من اليهود ومحاولة التوجه إليهم وتجنيدهم. كما أن المشروع الصهيوني في كتاباته لم يكن مشروعاً سياسياً عاماً، بل كان مشروعاً عملياً محدداً يتناوله بكل تفاصيله وأبعاده. ولا يعبّر أوليفانت عن كرهه لليهود بشكل مباشر كما كان يفعل شافتسبري أحياناً، وإنما عن طريق طرح مشروع متكامل للتهجير والتوظيف يتبناه اليهود بأنفسهم، كما أنه عمل على تخليص الصهيونية من الشعارات الدينية وإِعطائها وجهاً عملياً علمانياً، بحيث أصبح من الممكن تداولها بين أكبر عدد ممكن من المسيحيين واليهود واللادينيين.
وهنا يطرح السؤال نفسه: هل الصهيونية إِذن ظاهرة غير يهودية؟ وردنا على هذا السؤال سيكون بالإِيجاب. فالصهيونية ـ كما أسلفنا ـ هي بالدرجة الأولى نظرية سياسية غربية ومشروع غربي استيطاني إِحلالي، كان أعضاء الجماعات اليهودية بمنأى عنه تماماً لأسباب عديدة:
1) لم يكن أعضاء الجماعات اليهودية مشاركين في عمليات صنع القرار في الغرب، بل ولم يكونوا قريبين من صناع القرار.
2) لم تكن جماعات الضغط اليهودية قد تكونت بعد، فعدد أعضاء الجماعات اليهودية في كثير من بلدان أوروبا كان صغيراً. بل إن إنجلترا التي شهدت تصاعد الدعوة الصهيونية لم يكن فيها يهود مع بداية العصر الحديث وظل اليهود فيها يشكلون أقلية صغيرة للغاية لا يعتد بها حتى منتصف القرن التاسع عشر.
3) كانت اليهودية الحاخامية الأرثوذكسية قد قامت بتحويل فكرة العودة إلى أمر يتحقق في آخر الأيام، أي إلى ضرب من الحلم الديني الذي لا يتحقق إلا في مجال التاريخ المقدس لا على المستوى الإنساني الزمني. ولذا كان اليهود ـ وبخاصة في الغرب ـ يرفضون التورط في مشاريع العودة التي تدعي أنها مشاريع قومية. وقد رفض مجلس المندوبين اليهود بإنجلترا الاقتراح الذي تقدم به الكولونيل تشارلز(1814_1877) (الصهيوني غير اليهودي) لتوطين اليهود في فلسطين.
4) شهد منتصف القرن التاسع عشر ظهور اليهودية الإِصلاحية بتأكيدها المثل الاندماجية ورفضها العودة الفعلية إلى فلسطين رفضاً تاماً. وعقد عام 1845 مؤتمر فرانكفورت الشهير الذي حذف من كتب الصلوات جميع التوسلات للعودة إلى أرض الآباء وإحياء دولة يهودية. وحينما عقد المؤتمر اليهودي الأول عام 1872 لبحث مشكلة يهود رومانيا «لم يتطرق إلى أي حل عن طريق الهجرة اليهودية إلى فلسطين».
5) ظهرت في صفوف اليهود حركة الهسكلاه (حركة التنوير اليهودية) التي دعت اليهود للاندماج في أوطانهم.
6) شهدت كثير من بلدان أوروبا حركة تحديث وتصنيع قوية أتاحت فرص الحراك والاندماج الاجتماعي أمام أعضاء الجماعات اليهودية. كما أن كثيراً من حكومات الغرب سعت جاهدة لدمج اليهود.