الصهيونية بين أعضاء الجماعات اليهودية
وهكذا اكتملت الصهيونية فكراً وممارسة في حضن المعسكر الغربي، وخرجت من حيز الآمال الدينية والأفكار السياسية بل والمشاريع السياسية إلى حيز التنفيذ الفعلي بصدور وعد بلفور، أهم حدث في تاريخ الصهيونية. ولكن من الملاحظ أن الشخصيات الأساسية في تاريخ الفكر والممارسة الصهيونية (حتى نهاية القرن التاسع عشر) هي شخصيات غير يهودية (نابليون ـ شافتسبري ـ أوليفانت ـ ونستون تشرشل_ تشامبرلين ـ لويد جورج ـ بلفور… الخ). ويسمى اتجاههم الصهيوني «صهيونية الأغيار» (أي غير اليهود). وعلى عكس ما يتصور الكثيرون كانت «الصهيونية» التي وردت في مذكرة سير هربرت صموئيل صهيونية مسيحية قبل أن يقوم الصهاينة من اليهود بجهودهم المكثفة «للضغط» على الحكومة البريطانية لإِصدار وعد بلفور. بل ويلاحظ انصراف اليهود عن تأييد الحركة الصهيونية (لمدة طويلة حتى بعد صدور وعد بلفور) فقد اعترف وايزمان عام 1927 بأن وعد بلفور «كان مبنياً على الهواء»، وروى أنه في عام 1927 كان يرتعد خشية أن تسأله الحكومة البريطانية عن مدى تأييد اليهود للحركة الصهيونية، فقد كانت تعلم أن «اليهود ضدنا… كنا وحدنا نقف على جزيرة صغيرة، مجموعة صغيرة من اليهود لهم ماض أجنبي».
نشأة المنظمة الصهيونية وتطورها
أورد عبد الرحمن (1990) ما ذكره مصدر صهيوني بأن هناك خمسة عوامل رئيسة كان لا بد منها لتأسيس الكيان الصهيوني:
أولها الفكرة وثانيها الزعيم (أو القيادة المؤهلة، وثالثها الشعب أو (نخبة منه) ورابعها التنظيم الفعال، وخامسها البيئة الدولية الملائمة، ومما لا شك فيه أن جميع هذه العوامل توفرت، بدرجات متباينة وعلى نحو أسهم إسهاماً متفاوتاً في خلق (ولاحقاً بقاء) الكيان الصهيوني في ارض فلسطين.
فقد أسهم كل من الحاخام زفي هيرش فاليشر، وموزس هيس، وليوبنسكر، وتيودور هرتزل وغيرهم، في بلورة الفكرة الصهيونية في أوساط الجاليات اليهودية في أوروبا عبر تبنيه الحس القومي اليهودي واستغلال بعض الأحداث المعادية لليهود، ليشكلوا بذلك قناعة لدى نخبة من اليهود بان الخلاص من المأزق اليهودي إنما يتم بإنشاء دولة لهم، وأخذت هذه الفكرة تتأطر في اطر مؤمنة بها منذ عام 1882م عبر جمعيات أحباء صهيوني، إلى أن جاء هرتزل واستطاع جمع أشتات هذه الجمعيات تحت قيادته، وتأسيس إطار هيكلي وتنظيمي، ينظم تلك الأفكار والجهود في عمل مبرمج ومؤسسي عبر المؤتمر الصهيوني الأول الذي انعقد في مدينة بازل بسويسرا عام 1897م، لتكون بذلك الأداة التي نجحت في استثمار الأطماع الاستعمارية في الشرق الأوسط، والتماهي معها، باعتبار الحركة الصهيونية امتداداً طبيعياً لحضارة الغرب الاستعمارية في المنطقة.
عبرت الصهيونية عن نتاج الحراك الداخلي اليهودي متفاعلاً مع الحراك السياسي والاقتصادي والاجتماعي الأوروبي، فأفرز ذلك التفاعل ما سمي “المشروع الصهيوني في فلسطين”، وقبل تبلور الفكرة الصهيونية المعبرة عن تطلعات اليهود بدولة قومية لهم، تنازع اليهود عدة اتجاهات أهمها:
1-انتظار المخلص “هامشياح”.
اعتبر أصحاب هذا التيار أن خلاص اليهود مما هم فيه من تشرذم ووضاعة لن يتم بفعل البشر، بل إن الإله “يهوه” سيرسل “المسيح المنتظر” لتحقيق الخلاص، ويزيح عن كاهل اليهود ما هم فيه من معاناة، وكانت هذه الفكرة هي المهيمنة على اليهود لقرون عديدة، يصبّرون بها أنفسهم، ويحتفظون من خلالها بقدر من الأمل، ويقف الحاخامات على رأس المنادين بهذه الفكرة، ولا يزال بعضهم ينتظر المخلص ليكمل ما بدأه اليهود والصهاينة.
2-حركة الاندماج:
ظهرت في القرن التاسع عشر حركة التنوير “الهسكلا” والتي تدعو إلى إعادة النظر في العادات والطقوس اليهودية، باعتبارها عائقاً عن الاندماج في المجتمعات الغربية، وفي ظل ازدياد موجة القومية في أوروبا، أدت محاولات الاندماجيين إلى اثر عكسي، حيث اصطدم اليهود بالفوارق الثقافية والعرقية والطبقية مع الأوروبيين، مما دفع في الاتجاه الآخر القاضي بأن اليهود لا بد أن يشكلوا قومية خاصة بهم كما هو حال الأوروبيين.
3-الهجرة:
نادى أصحاب هذا التيار بالهرب من المشاكل عبر الهجرة من أوروبا، التي تتسم شعوبها بالقومية والقبلية إلى مجتمعات ودول تشكلت عبر أشتات من الأعراق والشعوب، كما هو الحال في أمريكا وبعض دول أمريكا الجنوبية، كما هاجر البعض إلى فلسطين باعتبار الأمر متعلقاً بهجرة دينية وأقرب إلى الحج إلى الأرض المقدسة.
4- الاستيطان غير السياسي:
وتقف تبرعات أثرياء اليهود خلف هذه الهجرات الاستيطانية ولكنها هجرات لم تكن مرتبطة بمشروع صهيوني متكامل، بل اشرف عليه أثرياء يهود منهم البارون دي روتشيلد، والبارون مورس دي هيرش، وهذا الاخير هو الذي أنشأ الجمعية اليهودية للاستيطان عام 1891، وذلك كنوع من القربى الصدقة في إطار التطلعات الروحية اليهودية نحو فلسطين.
5- التمرد على الواقع (الثورة):
حيث رأى أصحاب هذا الرأي أن تغيير واقع أوروبا السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي هو الذي سيغير حال اليهود، ومن هنا جاء انضمام هؤلاء إلى الأحزاب الثورية الرافضة لعصبية القومية وعلى راس هذه الأحزاب الشيوعية، لذلك يلاحظ أن الثورة البلشفية ضمت العديد من اليهود في قيادتها.
كل ما تقدم من اتجاهات لدى اليهود لم تؤد إلى حل “المسألة اليهودية”، وخاصة بعد اشتداد موجة معاداة اليهود في روسيا وأوربا الشرقية، مما دفع اليهود إلى التماهي مع التيار السائد في أوروبا “الدولة القومية”، وبدأ أصحاب هذا التيار يدعون إلى فكرة أن اليهودية في جوهرها رابط قومي يجمع بين اليهود، وانه لن تحل مشكلات اليهود ويصبح لهم قيمة إلا بتأسيس دولة لهم، رافضين كل الاتجاهات السابقة في حل معضلة اليهود، باعتبارها حلولاً غير كافية للخروج من المأزق اليهودي، فكانت الصهيونية الحل القومي لذلك المأزق عبر تنمية “الوعي العرقي والثقافي” بين اليهود فتمخض عن ذلك فكر سياسي بدأ بالانتشار بين اليهود، وأدى بعد ذلك إلى إفراز إطار تنظيمي لتجسيد الفكرة الصهيونية سمي “الحركة الصهيونية أو المنظمة الصهيونية العالمية” .
المنظمة الصهيونية العالمية كانت أداة تجسيد المشروع الصهيوني، أي نقل الفكرة الاستيطانية من المجرد إلى الملموس، وبالتالي فهي صلة الوصل التنظيمية بين المضمون النظري للمشروع الصهيوني والتطبيق العملي له في الواقع، وإذ تميزت الفكرة الصهيونية الاسترجاعية بغيبتها من حيث منطلقاتها النظرية، فإن أداتها التنظيمية اتسمت بدرجة من التجريبية والواقعية والبراغماتية.
ولما كان المشروع الصهيوني تقليداً لحركات القومية الأوروبية، ومتأثراً بها، دون الاستناد إلى أساس موضوعي لذلك في الواقع القائم لدى انطلاقه، فقد بدأ بالفكرة وراح يروج لها عبر منظمة سياسية، دولياً ويهودياً، ويعمل على توفير مستلزمات تجسيد ذاته، بشرياً وجغرافياً.
وفي ظل الواقع القائم آنذاك، كان طبيعياً بالنسبة لهذا المشروع – خلافاً للحركات القومية التي أراد تقليدها – أن يبدأ من النهاية، إقامة السلطة (الحكومة) ومن ثم البحث عن مادته البشرية الاستيطانية وتجنيدها لهذه المهمة، والعمل على تأمين الرقعة الجغرافية التي سيقوم عليها، ومن هنا فالحركة الصهيونية تشبهت بالحركات القومية شكلاً إلا أنها اختلفت عنها مضموناً، حيث صاغت أداتها التنظيمية بما يشبه الحكومة ظاهراً، ويختلف عنها وظيفة، وبالتالي مغزى، حيث كان على الحركة الصهيونية أن تبني مقومات الكيان والدولة، من حيث الأرض والسكان والعلاقات قبل ان تمارس صلاحيات الحكومة فعلاً، إلا أنها شكلت أداتها السياسية، منذ البداية، واعتبرتها حكومة يهود العالم وراحت تعمل لانتزاع الاعتراف بها دولياً، وتكريس نفسها بهذه الصفة في التجمعات اليهودية، والبدء بتأسيس الكيان السياسي عبر الاستيطان في فلسطين.
هرتزل ونشأة المنظمة الصهيونية
الحركة الصهيونية كجسم سياسي منظم، هي من صنع اليهودي المجري “ثيودور هرتزل” (1860-1904)، حيث نشر كتابه “الدولة اليهودية” سنة 1896، وعرض فيه مفهومه لجذور “المسألة اليهودية” وبالتالي وجهة نظره في حلها، عبر إنشاء ما سماه “امة يهودية ” مستقلة، على أرض تمتلكها.
ودعا لعقد المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة بازل بسويسرا عام 1897م لتحقيق هذا الهدف، فكان ذلك المؤتمر اللبنة الأولى في بناء المنظمة الصهيونية،ومن خلالها اخذ يتحرك على صعيد الجاليات اليهودية في أوروبا، وعلى صعيد العلاقات مع الدول والحكومات، داعياً إلى مشروعه، وساعياً إلى تحقيق غطاء دولي لهذا المشروع معتبراً أن المسألة اليهودية هي قضية دولية على العالم كله وخاصة الدول الكبرى المساعدة في حلها، وهذه الرؤية سميت فيما بعد بتيار الصهيونية السياسية.
وقد أعلن هرتزل في المؤتمر الأول هدف منظمته بقوله: “إننا نبغي وضع حجر الأساس للبيت الذي سيؤوي الأمة اليهودية…والصهيونية تسعى للحصول على وطن لليهود في فلسطين يضمنه القانون العام الدولي، ويكون معترفاً به في العلن”.
وعندما أسس هرتزل المنظمة الصهيونية بنى على الاطروحات النظرية لكل من ليو بنسكر (1822-1891) في كراسه (التحرر الذاتي) وناثان بيرنباوم (1863-1937) وكراسه (التحرر الذاتي) أيضاً، كما بنى على ما قامت جمعيات أحباء صهيون حيث عقدت ثلاث مؤتمرات لتنظيم عملها والهجرة إلى فلسطين، لكنها لم تفلح في صوغ منظمة موحدة فكرياً وعملياً، وعند انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول انضم إلى عضويته 260 اتحاداً من أحباء صهيون من جميع أنحاء أوروبا الشرقية والغربية.
وحيث فشل أحباء صهيون نجح هرتزل، الذي لم يُضف كثيراً إلى طروحات غيره النظرية لكنه تجاوز الجميع على الصعيد العملي، حيث تعامل مع المنظمة التي أسسها باعتبارها البرلمان اليهودي، وان لجنتها التنفيذية هي الحكومة اليهودية، رغم أنها كانت تفتقر إلى شرعية التفويض من الجاليات اليهودية، وعلاوة على المؤتمر كمنبر سياسي، دشن هرتزل “الشيكل” كتعبير عن العضوية في الحركة الصهيونية، وبالتالي المشاركة في أعمالها وانتخاب هيئاتها، التي تشبهت بأجهزة الحكومة، كما أسس صندوق الاستيطان اليهودي لتمويل مشاريعه، وأقام مطبعة رسمية، تصدر منشوراتها بلغات مختلفة للتعريف بمنظمته ونشاط مؤسساتها ولجنتها التنفيذية، وخصوصاً رئيسها، وكانت الجريدة الرسمية هي ” ذي فيلت” (العالم)، وشكلت هذه الأمور وغيرها الغطاء لتأكيد هرتزل في مذكراته بشأن المؤتمر الصهيوني الأول، حيث قال: “هنا أسست الدولة اليهودية”.
ولعل الإنجاز الأكبر الذي حققه هرتزل هو عقد المؤتمر الصهيوني الأول، بما ترتب على ذلك من وضع برنامج سياسي، وصوغ الأسس التنظيمية للمؤتمر والهيئات المنبثقة منه، وإعلان انطلاق العمل الصهيوني، يهودياً ودولياً واستيطانياً، ومن ثم أصبح لدى المشروع الصهيوني برنامج سياسي وأداة تنظيمية وخطة عمل يومية.
وقد نشط هرتزل في محاولة للحصول على البراءة الدولية من الدول العظمى في تلك الفترة، ولا سيما موافقة الخلافة العثمانية إعطاءه فلسطين، إلا أنه فشل في تحقيق ذلك، ونظراً لما يتمتع به هرتزل من براغماتية فقد وافق على مشروع بريطاني بتوطين اليهود في أوغندا، إلا أن المؤتمر الصهيوني السادس رفض ذلك، وأخذت تيارات صهيونية متصاعدة تمثل تحدياً لرؤية هرتزل القائمة على “الاعتراف الدولي” (الصهيونية السياسية ) حيث برز تيار الصهيونية العملية” التي نادت بتجسيد المشروع الصهيوني عبر الاستيطان وفرض الأمر الواقع على الدول العظمى، كما ظهر تيار الصهيونية الثقافية بقيادة “آحاد هاعام” والتي تعتبر أن مشكلة اليهود روحية ثقافية في المقام الأول.
توفي هرتزل عام 1904م دون الحصول على الوعد الذي أراد، إلا أنه استطاع أن يكرس المشروع الصهيوني باعتباره قضية عالمية، كما أن تفاوض الحكومات معه شكل نوعاً من الاعتراف الضمني بالمنظمة الصهيونية. كما استطاع حل بعض المشكلات الإجرائية والعملية في عدد من الدول الأوروبية بما سهل حركة وعمل أجهزة المنظمة وفي ذات الوقت فإن فشل هرتزل في تحقيقه البراءة الدولية أدى إلى تزايد المعارضة له في المنظمة الصهيونية، وإلى تبلور تيار صهيوني معارض له بوضوح في المؤتمر الصهيوني الخامس، حيث ظهر ما سمي “الجناح الصهيوني الديمقراطي” (الصهيونية العملية)، وقد تصاعدت الخلافات والتجاذبات في انتزاع موافقة مشروطة من المؤتمر للمشروع، وقد توفي هرتزل بعد المؤتمر السادس بأشهر قليلة ليترك وراءه تركة تحمل أعباءها نائبه (دافيد ولفسون) (1856-1914).