عملية التسوية في الثلاجة
قرار رئيس الوزراء “الإسرائيلي” إيهود أولمرت الذي أعلنه في المؤتمر الصحافي الذي عقده يوم الثلاثين من شهر يوليو/ تموز الماضي، والذي جاء فيه أنه لن يرشح نفسه للتنافس على زعامة حزب “كاديما” في سبتمبر/ أيلول المقبل، وأنه سيستقيل بمجرد انتخاب زعيم جديد للحزب، فتح الباب على أكثر من سيناريو يمكن أن ترسمه التطورات المنتظرة في الكيان الصهيوني خلال الأشهر الثلاثة المقبلة، والأهم أنه وضع “عملية السلام في الشرق الأوسط في الثلاجة”.
سنتان انقضتا، وبالتحديد منذ منتصف شهر أغسطس/ آب 2006 تاريخ انتهاء العدوان “الإسرائيلي” على لبنان، لم تتوقف فيهما المطالبات باستقالة أولمرت، وشملت تقريباً كل الأحزاب السياسية في الكيان الصهيوني من اليسار إلى اليمين، المشاركة في الائتلاف الحاكم كحزب العمل، وتلك التي في المعارضة كالليكود، وأيضاً قيادات في حزب “كاديما” نفسه. ثم جاءت التحقيقات المتعلقة بتهم الفساد التي تجريها الشرطة، فأصبح مؤكداً أن أيام أولمرت وحكومته قد شارفت على الانتهاء.
ولا حاجة إلى التوقف عند التعرجات التي مرّ بها قرار أولمرت منذ انتهاء “حرب لبنان الثانية” الفاشلة في يوليو/ تموز 2006، كما ليس من حاجة إلى القول أو البرهنة على أن هذه الحرب كانت قد قررت مصير أولمرت منذ ذلك التاريخ، وأنه كان عليه أن يستقيل في حينها مع رئيس الأركان حالوتس ووزير الدفاع بيرتس. أيضاً لا حاجة إلى البحث عن أسباب إضافية لتسويغ القرار، ويكفي لهذا الغرض ما قاله كاتب في صحيفة “إسرائيلية” حيث أوجز ببلاغة فقال: “قتلته الحرب ودفنته التحقيقات”.
وقبل إعلان القرار المذكور بأيام قليلة، وكان عائداً للتو من زيارة قام بها للولايات المتحدة، قال أولمرت في تصريح صحافي له بعد واحد من لقاءاته الروتينية مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس، إنه يستبعد التوصل إلى اتفاق مع الفلسطينيين قبل نهاية العام. ولحق بتصريحه تصريح مناقض صدر عن وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس أكدت فيه أنه لا يزال في الإمكان التوصل إلى مثل هذا الاتفاق قبل نهاية ولاية بوش.
لقد تقرر إجراء الانتخابات الداخلية لانتخاب زعيم جديد لحزب “كاديما” في موعد لا يتجاوز الثامن عشر من شهر سبتمبر/ أيلول المقبل، وأقوى المرشحين لشغل هذا الموقع هما تسيبي ليفني وشاؤول موفاز. السيناريو العام هو أنه أياً كان الفائز، فعليه أن يباشر تشكيل حكومة بديلة خلال 82 يوماً من تاريخ استقالة أولمرت، فإن لم يستطع يمنح 14 يوماً إضافية للغاية نفسها، وإلا فإنه يصبح لا بد من حل الكنيست والدعوة لانتخابات مبكرة خلال 90 يوماً. التقديرات “الإسرائيلية” ترى أن تشكيل الحكومة البديلة سيكون أقل صعوبة في حال إذا كان الفائز موفاز مما لو كانت ليفني هي الفائزة، لكن في الحالين يظل المرجح عدم تمكن أي منهما من النجاح. إذا صحت هذه التقديرات وتمت الدعوة لإجراء انتخابات مبكرة يصبح السؤال ماذا سيحل بالمفاوضات المنخرطة فيها حكومة أولمرت مع السلطة الفلسطينية والنظام السوري؟ وأيضاً ماذا سيحل باتفاق التهدئة المعقودة مع حركة حماس في غزة؟ وبعبارة أخرى يصبح السؤال المطروح: أين تصبح “عملية السلام في الشرق الأوسط”؟
أولاً، لا بد من ملاحظة أن الحديث منذ سنوات عن “عملية سلام” في المنطقة هو حديث افتراضي أو مجازي، حيث لا شيء من ذلك أنتجته تلك المفاوضات على أي من الجبهات التي تستهدفها “عملية السلام” المفترضة. فالمفاوضات الجارية مع السلطة الفلسطينية، باعتراف أطرافها لم تحقق شيئاً، ولا يغير هذه الحقيقة بعض التصريحات المغايرة. والمفاوضات غير المباشرة مع سوريا لم تحرز حتى الآن تقدماً يكفي لتحويلها إلى مفاوضات مباشرة، فضلاً عن أن تصريحات سورية سابقة أكدت أنه لا يمكن إحراز تقدم حقيقي ملموس في ظل إدارة الرئيس جورج بوش. أما التهدئة في غزة، فما أكثر ما كررت حركة حماس أن الحكومة “الإسرائيلية” لم ولا تلتزم ببنودها، وأن قوات الاحتلال تخرقها كل يوم أكثر من مرة.
والآن، ما بين انتخاب زعيم “كاديما” الجديد في سبتمبر/ أيلول، واحتمالات تشكيل أو عدم تشكيل الحكومة البديلة في أكتوبر/ تشرين الأول أو نوفمبر/ تشرين الثاني، تكون دقت ساعة انتخابات الرئاسة الأمريكية، ولم يعد لدى القابع في البيت الأبيض ما يخصصه من وقت أو جهد حقيقي لهذه العملية التي ستسقط بالكامل من الحساب إن تمت الدعوة لانتخابات مبكرة للكنيست الصهيوني في مارس/ آذار 2009. بذلك نكون قد دخلنا العام الجديد، وكالعادة يحتاج الرئيس الأمريكي الجديد إلى عام كامل لهيكلة أولوياته وإلقاء نظرة على الملفات التي تركها له سلفه، ومنها ملف “عملية السلام”.
ومنذ أوسلو وحتى اليوم، تمارس الحكومات “الإسرائيلية” المتعاقبة، مع الفلسطينيين خصوصاً، سياسة يفترض أنها واضحة المعالم، حدّاها القتل والتجميد، قتل الإنسان مادياً ومعنوياً وقتل الأرض بالمصادرة والمستوطنات، ثم تجميد الوضع باسم المفاوضات التي لا تنقذ إنساناً ولا تبقي أرضاً. في الوقت نفسه، تمارس الحكومات الأمريكية المتعاقبة مع الفلسطينيين سياسة لا تختلف في جوهرها عن سياسة صنيعتها الصهيونية، سياسة الوعود الكاذبة في غلاف من الأوهام عبر الترهيب والترغيب. وبالنتيجة، في نهاية حكم كل رئيس أمريكي أو حكومة “إسرائيلية”، يكتشف الفلسطينيون اللعبة نفسها التي يلعبها معهم “الإسرائيليون” والأمريكيون.
السؤال الآخر بعد قرار أولمرت هو: ماذا سيقول المراهنون على المفاوضات وعملية السلام الأمريكية؟