تركيا وإيران والعرب وإسرائيل
تعرض تركيا وساطتها على من يطلب ومن لا يطلب. وقد كان الرئيس بشار الأسد في أنقرة ربما من اجل محادثات السلام التي تتوسط فيها تركيا. وزاد الطين بلة عرض تركيا الوساطة بين إيران والمجتمع الدولي بشأن النووي. وهناك من يقول ان تركيا تتوسط ايضا بين طهران وتل ابيب!
لماذا هذا الشره التركي على التفاوض، والى أين تؤول الأمور؟ بما له دلالته ان الرئيس السوري ذهب الى انقرة بعد طهران، وسط قطيعة له مستمرة مع كل من السعودية ومصر. فلماذا ذهب الى طهران اولاً؟ هل لتأكيد التحالف معها، وازالة الشكوك التي قد تكون عرضت بعد مقتل عماد مغنية بدمشق، وبدء مفاوضاته مع اسرائيل؟ وهل اضاف لذلك آراء الرئيس الفرنسي حول امكان الوساطة السورية بين طهران والمجتمع الدولي؟ الأمر الثاني هذا غير جدي لأن نظام الأسد ما عاد مؤهلاً للعب دور كهذا يتجاوز حجمه، ويتجاوز علاقاته. فالملف النووي الايراني يكاد يستعصي على اميركا وروسيا، فكيف سينفع في معالجته تدخل الرئيس الأسد؟! ووزير الخارجية السوري قال بالفعل اثناء الزيارة ان سورية ما تزال تستكشف الأجواء قبل ان تقرر التوسط او عدمه! فلننصرف الى الأمر الأول، أمر العلاقة السورية الإيرانية.
الواضح ان طهران لا تريد ولا تستطيع مخاصمة سورية الآن، وسط المعمعة مع المجتمع الدولي. ذلك ان العلاقات بحزب الله وبحماس سوف تتأثر كثيراً لأن دمشق هي الطريق اليهما عسكريا وأمنياً وسياسياً. وهذا مهم لحماس اكثر من حزب الله. فحزب الله لديه مبدئياً ومرحلياً ما يكفيه، ثم انه لا حرج عنده في اعلان الولاء لولاية الفقيه كما اعلن ذلك بالفعل السيد حسن نصر الله اكثر من مرة.
لكن ما هي الاعتبارات التي تدفع الاسد للتمسك ولو شكلا وعلناً بالتحالف مع طهران؟ هناك عدة اعتبارات اولها وأهمها ان هناك نفوذاً كبيراً لطهران بداخل النظام السوري تكون على مدى عقدين من الزمان، وستترتب على فرط التحالف متاعب بداخل نظام الاسد. وهذا ان لم تكن قد بدأت. والاعتبار الآخر امكان استخدام العلاقة مع طهران في استدراج العروض من تركيا واسرائيل، والأهم من الولايات المتحدة والاعتبار الثالث التشابك الحاصل في لبنان وفلسطين والعراق بين النفوذين الايراني والسوري، وامكان تضرر الطرفين في هذه المواقف ان تصاعد الصدام بينهما. لكن وأياً تكن الأسباب التي تدفع الطرفين للتشبث في العلن بالتحالف “التاريخي والاستراتيجي”؛ فان الوقت محدود ويوشك ان ينفد لزيادة الاحتياجات الإيرانية، وزيادة الارتباطات السورية الجديدة وطبيعتها التي لا تسمح بالشراكات المتناقضة.
ولنلتفت الى تركيا التي تبدو داخلة على كل الخطوط، وبأسلوب يختلف عن الاسلوب الايراني. فهي في كل الأحوال تعرض مصالح ونجاحات وبدائل لا تتحدى احداً في الظاهر. والواقع انها تستفيد من ثلاثة أمور: التحدي الايراني، والانقسام العربي، والحاجة الأميركية الاسرائيلية الى التواصل ومتابعة الحديث بأشكال مختلفة عن السابق مع سائر الأطراف بمنطقة الشرق الأوسط. والتواصل مع سورية لصالح النظام ولصالح اسرائيل استجاب لهذه العوامل الثلاثة. ففي مقابل التحدي الايراني القابض على العنق السوري، والناشر للاضطراب في المنطقة بحجة مواجهة اميركا واسرائيل، عرضت تركيا نفسها مظلة استراتيجية لسورية ليس في مواجهة ايران وحسب بل في مواجهة العرب الكبار (السعودية ومصر) الذين حاولوا عزل سورية منذ ما قبل مؤتمر القمة بدمشق قبل ستة اشهر.
وما استطاع الايرانيون (ولا العرب) أن يقولوا علناً انهم ضد التوسط التركي، لأن ذلك يتضمن أملاً باستعادة الأراضي السورية المحتلة في الجولان، والا تقفل القناة التركية، ويا دار ما دخلك شر.
فالذي تضرر من النافذة التركية ليس الايرانيون وحسب، بل والعرب الكبار ايضاً. اذ ان سورية ما خرجت من العزل العربي (والأميركي) فقط بالتواصل التركي والفرنسي، بل وغادرت بذلك المبادرة العربية للسلام التي كانت ملتزمة بها ودخلت في مفاوضات ثنائية كانت تعارضها دوما. واستمرت في التدخلات غير الملائمة (ولكن المسموح بها؟!) في لبنان والعراق وفلسطين. فقد تكون هناك أطراف تظن ان الحضور السوري بلبنان مجدداً يمكن أن يوازن النفوذ الايراني عبر حزب الله. وكذلك الأمر في العراق وغزة.
بيد أن التدخل التركي في العالم العربي على مشارف التوتر الشيعي/ السني له دلالاته أيضاً. فالفكرة السائدة لدى بعض السياسيين الاتراك ان الضغوط والاحتياجات الايرانية استنفرت الشيعة، وبدا هذا الاستنفار في أحد وجوهه في مواجهة السنة والسعودية بالذات. وهكذا فإن تركيا لا تعرض نفسها حاضناً أطلسياً للتوازن والاستقرار في الشرق الأوسط (وحسب) والذي يتضمن اسرائيل دولة طبيعية!)؛ بل وتعرض على السنة العرب (وعبر اسلامها الليبرالي الذي يحبه الغربيون) حماية ومظلة في وجه التحدي (الشيعي) الايراني، والاستضعاف (السني) العربي السعودي والمصري وغيرهما.
ان هذا يعني ـ بالتبع ـ ان هناك امكانيات لبداية تقارب بين ايران والسعودية. فايران لا تنافس السعودية على السنة العرب، بل التي تنافسها تركيا. وايران والسعودية هما الدولتان الوحيدتان بالمشرق الأوسع، واللتان ليستا جاهزتين حتى الآن للتواصل مع اسرائيل، فضلاً عن اقامة علاقات طبيعية أو تطبيعية معها!
وفي النهاية، لماذا ذهب الاسد الى تركيا؟ يقال انه ذهب الى هناك ليؤكد ان زيارة طهران والتزاماته هناك ما غيرت من رأيه في المظلة الجديدة ويقال انه ذهب الى صديقه اردوغان للشكوى من أن الاسرائيليين ليسوا مهتمين وليسوا قادرين الآن على تحقيق السلام مع سوريا. ولذا فعليه ان يعذره اذا نفخ في بوق العلاقات “الاستراتيجية” مع طهران، ولو مؤقتاً.
أما الايرانيون، وأما السعوديون، فلا شك انهم يتداولون الآن ـ كل على حدة ـ افكاراً بشأن الادوار الجديدة لتركيا وللنظام السوري!