فكرة «الأزلية والأبدية» في الخطاب الصهيوني
اعتقد النازيون أنهم أرسوا قواعد لنظام سوف يدوم لألف عام على أقل تقدير. وما إن مر عقد ونيف من السنين حتى كان رايخهم أثرا بعد عين، وأصبحوا هم أنفسهم مطرودين ومطاردين ومطلوبين للعدالة الإنسانية في الجهات الأربع.
ومع أن الصهيونيين في شطرهم اليهودي كانوا بحسب زعمهم في طليعة ضحايا النازية فكرة وحركة، إلا أنهم استلهموا كثيراً من أفكارها وممارساتها، بل وأظهروا تفوقاً عليها في بعض الجوانب، لا سيما ما يتعلق بالثقة في انحياز القدر والتاريخ إلى جانبهم وأن انتصارهم النهائي هو في حكم اليقينيات.
فعندما نستذكر، علاوة على القواسم المشتركة الكثيرة، إيمان النازيين بدوام دولتهم، ونتأمل مقولات الصهيونيين حول «أزلية» وجودهم وحقهم في أرض إسرائيل و«أبدية» القدس كعاصمة لهذه الأرض، علاوة على «الأبدية» بالنسبة لسيطرتهم على مناطق بعينها من فلسطين التاريخية، لا بد أن نوقن بوجود صلة قوية بين العقلين النازي والصهيوني، مع منح الصهيونيين ميزة التفاؤل الزائد، كونهم علقوا مشروعهم ومستقبل طموحاتهم ورؤاهم بذمة «الأبدية» و«الأزلية» وليس بألف عام فقط!
يتفوق الصهاينة جميعهم على النازيين في باب الإيمان بصحة مسارهم التاريخي، وفي الوقت ذاته يتوزعون على درجات ومراتب من «الثقة بالمستقبل». وفي هذا الإطار تقع القوى المعروفة باليمين من النخبة الحاكمة في إسرائيل الآن في الدرك الأعلى. فقد تعودنا مطولا مزاعم معظم الزعماء الصهيونيين والإسرائيليين بأن القدس هي العاصمة الأبدية لإسرائيل، وأزلية حق اليهود في أرض الميعاد..
لكن الموصوفين باليمينيين (مثل بنيامين نتنياهو وصحبه) استحدثوا أخيراً إضافات لما يقع في حيز الأبدية الصهيونية اليهودية. فهم يتحدثون مثلا عن أن «منطقة وادي الأردن في الضفة المحتلة سوف تبقى تحت سيطرة إسرائيل إلى الأبد، وأن حكومة إسرائيل تعتبر أن هذه المنطقة لا يمكن فصلها عن إسرائيل في أي اتفاق سلام دائم»..! وقد تأتي الأيام بتخصيصات جغرافية أخرى تضاف إلي هذا الحيز.
ولأن الأبدية والأزلية مفهومان يفيدان الاستمرارية إلى ما لا نهاية أو الخلود والدوام مدى الدهر، وكذلك يتعلقان بالبداية الأولى للوجود ولهما دلالة صارخة على الآفاق الزمنية بمعناها الماضي والمستقبل بلا حدود، فإن التعلق الصهيوني بهما يتعارض مع أكثر من مظهر للمنطق والعقلانية، بما يؤكد أسطورية الادعاء بهما وخروجه عن جادة التاريخ المفهوم وطبائع الوجود ذاته.
لا تستقيم فكرة الأبدية بداهة، وسنة التغير باعتبارها إحدى حقائق الحياة. الديمومة والخلود ليسا من طبائع المخلوقات جميعها، بما في ذلك الدول والمدن.. ومن يدعيهما لنفسه بالمطلق وبلا تحوط بالنسبية والتاريخية المقيدة، لا بد أنه يتوهم بأنه اتخذ مع الخالق عهداً يمكنه بمقتضاه تجاوز الطبيعي والمعتاد. ولعل هذا يقودنا إلى مصدر الفكرة المطروحة للأبدية بصيغتها الصهيونية.
فثمة مجال لإحالة الفكرة للعقيدة الصهيونية عن الأرض الموعودة التي ينبغي أن تكون دولة إسرائيل، والقدس الموعودة التي يتعين حتماً أن تصبح عاصمة لهذه الدولة. وبالتداعي نحن إزاء نمط حقيقي للوهم الذي يتملك الصهيونيين ويتلبسهم بعد أن أنتجوه وامتطوه بأنفسهم. وبكلمات أخرى نحن أمام مثل حي لاستمرار الفهم الأسطوري والكذب الذي قالت به الصهيونية في صورتها البدائية.
تأسيساً على ذلك، بوسعنا تصديق القائلين بأن الصهيونية العارية لا تزال حية تسعى، وأن المسافة التي قطعتها القيادة الإسرائيلية بعيداً عن البعد الأسطوري لهذه العقيدة الحاكمة منعدمة تقريباً، وأن العملية السلمية ومسار التسوية لم يغيرا ثابتا لدى العقل الحاكم في إسرائيل. وعلى الجملة ما زال علينا أن ننتظر نتائج كارثية أخرى لهذا النمط من التفكير.
والحق أن المحاججة العقلية الممتدة بين الأطروحات الصهيونية بعامة ونقادها، تتضمن ما يدحض الأسس التي تقوم عليها فكرة «الأبدية» والعهد المزعوم مع السماء. هذا فضلاً عن إمكان تسخيف الفكرة ذاتها من منطلقات منطقية موضوعية بعيدة حتى عن دائرة اللاهوت، لأنها تتعارض مع مشاهدات الحياة العادية وما يعتريها من تغير منذ الأزل وإلى الأبد.