كيان الاستيكان العربي
بداية عندما شغلني هاجس ما تعرضت له الثيران العربية الشقيقة أسودها وأبيضها من اجتياح لأراضيها وتحويل آمنيها بين عشية وضحاها إلى لاجئين في بيوتهم (!)، كان لا بد أن أبحث عن وصف يلتقط صورة حقيقية حيال صمت الأنظمة العربية الأشاوس فلم أجد وصفاً أبلغ من “الاستكانة”، التي بدت واضحة في إعادة شاحنة اسكتلندية محملة بالأدوية من حيث أتت وعدم السماح لها بالمرور لإغاثة قطعة تئن من الجسد اسمها غزة .
وقبل الشروع في الوصف ينبغي أن نضع ما تفضل به ابن خلدون في مقدمته دليلاً حين يقول : ” المغلوب مولع بتقليد الغالب..”، ثم نقارن بها سياسات أنظمتنا العربية التي طبقتها عن جدارة وزادت في الوصف تبعية، وما صاحب ذلك من حالة التحاق “ذيلي” بالقوى الخارجية غير مسبوق.
فـ”الاستكانة” في لغتنا العربية تدل على الضعة بعد القوة، والاستراحة بعد العمل ، والعطالة بعد الحركة، ومن ثم يغدو فعلا خارج نطاق الإرادة التي دندنت حولها نخبنا السياسية الكارتونية وأصبح أمرها كما يقول القائل :”أسمع ضجيجاً ولا أرى طحيناً”..!!
ولفظة الاستكانة تستمد وجودها من واقعنا السياسي على مستوى القيادات، إذ المصطلح يُشتق من فعل ثلاثي “سكن” ، وهو حال النخب العربية، ولو كانت تلك النخب تمثل إرادة شعوبها لكانت مواقفها اختلفت 180 درجة من الاستكانة إلى المقاومة ولتغير أمرها الواقع.
ولأن الأنظمة العربية جبلت على عدم الإدراك فقد أرعبها مشهد النظام العراقي المتدلي من مشنقة واشنطن، خصوصا مع تزايد الحديث عن وجوب تغيير أنماط الحكم في المنطقة العربية وإقامة نظام سياسي واقتصادي جديد أشد تبعية واستكانة عما هو موجود بالفعل.
وفيما تقول العرب : سكن أي خضع ، نجد أن هذا هو عين ما ينطبق على الأنظمة العربية التي انتهت صلاحيتها من الوجود؛ وأصابها الفساد من الداخل نتيجة سياساتها القمعية والبوليسية ضد شعوبها ومواطنيها وهى حالة “عدم” الاستكانة الوحيدة في واقعها (!)، مطبقة للمثل القائل أسد عليّ وفى الحروب نعامة..!!
فعندما فقدت الأنظمة العربية وهجها القومي في صفعة عام 67، أخذتها حالة من هستريا الخضوع والخنوع ، وبدأت تنتقم حتى من أفكارها العقيمة التي أنتجتها عبر عقود، ولأن الأفكار كما يقول “مالك بن نبي” تنتقم من صاحبها حين تُخذل تاريخياً”، وصفت أنظمتنا المستكينة المقاومة بالإرهاب، ووصفت الاحتلال بـ”التدخل”، وواصلت حصار غزة لإجبار المقاومة على قبول مشروعية الاستكانة كما قبلها قادة السلطة في الضفة.
وتجسدت هذه الاستكانة بشكل واضح بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر من خلال الأوامر الأمريكية التي صارت مباشرة إلى القيادات العربية في السنوات الأخيرة، فتمنع قمم عربية من الانعقاد وان انعقدت فبأقل تمثيل، وتمنع دول عربية من رعاية أمنها القومي الممتد في دول الجوار التي تقاوم خطر التقسيم.
مؤكدة حقيقة أصبحت واضحةً وهي أن الأوامر التي كانت تتمُّ فيما سبق سرًّا، أصبحت الآن تتم بشكل علني دون خجل، وما عادت راقصة في حينا تستحي لما وجدت كل الأنظمة العربية شعارها الرقص.
ورغم أن ملامح التغير الاستراتيجي في المنطقة أظهرت لكل عين ترى أن الولايات المتحدة لم تعد الفاعل الرئيسي بالفعل رغم قوتها المفرطة، إلا أن الاستكانة حالت دون اقتناص الأنظمة العربية الفرصة فتقاعست عن استغلال مساحة العمل غير المسبوقة التي أتاحتها التغيرات في المنطقة فحتى أمريكا ذاتها يعتريها خلافات من الداخل فضلاً عن خلافات حلفائها الكبار مثل روسيا والصين.
والحق يقال أن نظاماً وحيداً أخل بمعادلة الاستكانة العربية وهو النظام السوداني الذي يحارب رماح واشنطن وحده وآخرها مناوشة المحكمة الدولية التي اتهمت الرئيس السوداني في حالة فريدة من نوعها بالإرهاب، وكان من المتعين أن تتهم بوش وباقي فريق سلخانة الاحتلال الدولي في العراق وأفغانستان بالمذبحة وحرب الإبادة، غير أنها لن تفعل، فالسكين لا تقتل بذاتها كما أنها لا تطعن يد القاتل عنوة!!
في هذه الأجواء استغلت دولة ذات أطماع مثل إيران الفرصة التاريخية النادرة وأدارت معركتها السياسية بحيوية مطلقة مدعومة بتأييد مواطنيها فصنعت لنفسها ملفاً نووياً وأخذت مكاناً على طاولة السياسة الدولية الفاعلة.
وشرعت إيران في ممارسة دور إقليمي متزايد في المنطقة مستغلة التراجع الاستراتيجي الأمريكي فعززت نفوذها الإقليمي في العراق ولبنان بل وفي الصراع العربي الصهيوني قدر طاقتها.
وتمكنت من تحييد الأطراف العربية الحليفة للولايات المتحدة والتي حاولت واشنطن إدخالها في تحالف لاحتواء إيران، وتجاسرت على التهديد بإغلاق مضيق هرمز إذا تعرضت لضربة عسكرية.
ونشطت السياسة الإيرانية شهية تركيا فوجدت هي الأخرى في ظل استكانة عربية ليس لها ما يبررها أن دورها الإقليمي يمكن أن يتعزز في غياب الدور الأمريكي فيما يسمى بـ”فنتازيا السلام” فبادرت بوساطة تفاوضية بين سوريا وإسرائيل على حساب الضغوط الأمريكية لعزل سوريا ومنع إسرائيل من التفاوض معها.
حتى أن إسرائيل لقيطة أمريكا وجدت أن من مصلحتها في ظل هذه الاستكانة التي طالت حتى أكبر دولة في المنطقة وهى مصر فتقزمت وانزوت على نفسها وابتلعت لسانها، وبادرت إسرائيل بتهدئة جبهات عديدة سواء حزب الله في لبنان أو حماس في غزة أو خطر التحالف الإيراني.
وخرجت الشعوب العربية خاسرة من هذا الحراك الدولي الذي صعدت فيه دول وتهاوت دول ، لتدفع ثمن استكانة أنظمة مهترئة أكل عليها الدهر وشرب وبال عليها التاريخ، بينما تواصل تلك الأنظمة تقديم دعمها المفرط لكل محتل في المنطقة مقابل السكوت على استبدادها في الداخل وسطوتها على شعوبها.
لقد فوتت تلك الأنظمة باستكانتها فرصة إنقاذ الثور العراقي من براثن أنياب الاحتلال، فكان يمكن الحصول على ضمانات حقيقة من صدام المنهك من حصار دام ثلاثة عشرة عاماً بعدم تهديد الكويت، وكان يمكن عقد قمة عربية في قلب بغداد وكان يمكن إرسال جيوش عربية لحفظ السلام.
والأمر نفسه يتكرر ببطء شديد في الأزمة السودانية الحالية مع قرار المحكمة الدولية التي لم ولن تحاكم بوش أو بلير أو أولمرت إلى آخر قائمة السفاحين، أو حتى جندي إسرائيلي أطلق النار على قدم شاب فلسطيني معصوب العينين، وإنما انتصب ذيلها وعلا نباحها ضد النظام السوداني الذي يعاني حصار استكانة عربية مريرة .
إذاً والحال هكذا فلا يمكننا أن نعول على اتخاذ النظام السياسي العربي خطوات صحيحة حيال قضايانا في فلسطين أو غيرها، ولن يكون للأنظمة العربية الحالية دور في محيطها السياسي وحصار غزة خير شاهد، وربما يطول العمر بالبعض فيرى أحد أنظمتنا المستكينة يضع إكليلاً على نصب الهولوكست في تل أبيب أو غارقاً في النحيب أمام حائط المبكى .
أعتقد أن الأمل الوحيد في قلب موازين المعادلة هو دعم الشعوب للمقاومة الطاهرة من داء الاستكانة، وربما وعلى المدى البعيد ومع ضعف نظم الحكم الحالية وعدم تمتعها بالشرعية، يمكن للشعوب العربية في نهاية المطاف أن تحقق آمالها بلفظ هذه النظم المستكينة، الدائرة في الفلك الأمريكي، وانتخاب أخرى توقن أن الاحتلال باستطاعته قذف الصواريخ ودهسنا بالطائرات وفتح المعتقلات، غير أنه ليس باستطاعته قبض الأرواح وخلع الإيمان من الصدور.