تغريد خارج السرب
لا أعرف إلى أي مدى يحتل المزاج العربي دعوة لإحداث نقلة نوعية في الوجهة السياسية، تستهدف توثيق العرب مع الأتراك والإيرانيين، لكني على يقين بأن ذلك يعد تغريداً خارج السرب.
(1)
في حين يحظى مسلسل “نور” التلفزيوني التركي بمتابعة غير عادية في أنحاء العالم العربي، أزعم أنها أحدثت انقلاباً في رؤية العرب لتركيا، فإن المراصد السياسية باتت مشدودة إلى الدور التركي الصاعد الذي يتحرك بجدية على مستويات عدة، من القمة التركية الإفريقية، إلى استقبال الرئيس الإيراني أحمدي نجاد في اسطنبول وقبله استقبال الرئيس السوري بشار الأسد، وزيارة أردوغان إلى بغداد، ودخوله على الخط بين روسيا وجورجيا، وتحركه لتطبيع العلاقات مع خصومه التاريخيين في أرمينيا واليونان، وتوسط حكومته بين سوريا و”إسرائيل”. كل ذلك خلال الأشهر القليلة الماضية.
في وقت متزامن، كانت إيران تطوّر علاقاتها مع روسيا باتفاق على التعاون في مجال الفضاء بعدما قطعت شوطاً في تعاونها معها في بناء مفاعلها النووي في بوشهر، وتمد جسوراً مع الجزائر أثناء زيارة الرئيس بوتفليقة إلى طهران، وتستقبل رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، وأثارت الانتباه في هذا السياق الزيارة التي قام بها الرئيس أحمدي نجاد إلى اسطنبول، التي غادرها متجها إلى دمشق. ثم زيارة أمير قطر الشيخ حمد بن خليفة راعي اتفاق الفصائل اللبنانية في الدولة إلى طهران.
هذا القدر المعلن من الاتصالات دفع بعض المحللين إلى الحديث عن ظهور نظام إقليمي جديد في المنطقة، تلعب فيه إيران وتركيا الدور الأساسي، كما دفعهم إلى مقارنة هذه التحركات بالسكون المخيم على العالم العربي، واستغراقه إما في الخلافات بين دوله أو في مشكلاتها الداخلية، التي استصحبت حالة من الانكفاء القطري أذهلت العواصم عما يجري في الساحتين الإقليمية والدولية.
(2)
ما هو جديد في هذه التحركات أنها تتم بين دول لها مشكلاتها ومراراتها في ما بينها، لكنها انطلقت من رؤية استراتيجية تجاوزت بها عقد الحاضر فضلاً عن أوزار التاريخ. إن شئت فقل إن هذه الدول طوت صفحة التاريخ واستعلت فوق المشكلات الأدنى لكي تحقق المصالح العليا.
تركيا وإيران على طرف نقيض على صعيد التحالفات السياسية. الأولى لها ارتباطاتها مع الولايات المتحدة و”إسرائيل”، وهما الخصمان اللدودان لإيران، وممثلو النظام الإسلامي في طهران يرفضون في زياراتهم الرسمية زيارة قبر أتاتورك مؤسس الجمهورية العلمانية في تركيا كما يقضي البروتوكول. ولذلك فإن زيارة أحمدي نجاد ولقاءاته تمت في اسطنبول، وكان الأتراك هم الذين رتبوا العملية، ولم يعتبروا ذلك إهانة لمؤسسة الجمهورية، لأن هناك مصالح أكبر من البروتوكول. وفي الذاكرة التركية أن إيران أقامت علاقة مع حزب العمل الكردستاني في التسعينات للضغط على أنقرة. كما أن الصراع المرير بين الدولتين الصفوية والعثمانية لا يزال له مكانه في ذاكرة الأتراك، وفي الوقت ذاته فإن أنقرة قلقة من التمدد الإيراني في العراق، وتعتبره إخلالاً بالتوازن المفترض بين قوى الجناح الشرقي للمنطقة.
وتركيا التي تتمتع الآن بعلاقات ممتازة مع سوريا حتى تجاوز حجم التبادل التجاري بين البلدين 900 مليون دولار سنة 2007 وهو يزيد على أربعة أضعاف التبادل التجاري بين تركيا ومصر (200 مليون) كانت على وشك الدخول في حرب مع سوريا، وهددت بغزو دمشق عام ،1998 بسبب دعمها لحزب العمال الكردستاني وإيواء زعيمه عبدالله أوجلان. وبين البلدين تاريخ مسكون بالعداء والتوتر، منذ عام ،1939 عشية الحرب العالمية الثانية حين اقتطعت فرنسا لواء الاسكندرون من سوريا ومنحته إلى تركيا. وبعد ذلك حين أقامت تركيا مجموعة من السدود التي أثرت في حصة سوريا من المياه. ذلك غير اعتراف أنقرة ب”إسرائيل” في وقت مبكر (عام 1948)، الأمر الذي صنفها ضمن المعسكر المعادي لسوريا. وهو ما تغير الآن 180 درجة، بحيث أصبحت أنقرة وسيطاً في المحادثات بين سوريا و”إسرائيل”.
(3)
ليست هذه معلومات مما نطالعه في الصحف ونحن نتثاءب، ثم نتحول عنها لنتسلى بأخبار العالم الأخرى، لأن هذه التحركات تتم في شمال العالم العربي وشرقه، وبالتالي فإنها تدخل بامتياز في إطار منظومة الأمن العربي، التي أصبح وجودها محل تساؤل وشك، في ظل غياب الرؤية الاستراتيجية لمصالح المنطقة، على النحو الذي سبقت الإشارة إليه. وللأسف، فإن ذلك الغياب سمح بإطلاق العنان ل “إسرائيل” لكي تتمدد وتعبث وجنوب العالم العربي ما بين وادي النيل والبحر الأحمر.
تشكل تركيا وإيران مع العالم العربي (مصر بوجه أخص) “مثلث القوة” في منطقة الشرق الأوسط، الذي تحدث عنه الدكتور جمال حمدان، عالم الجغرافيا السياسية المرموق، في كتابه “استراتيجية الاستعمار والتحرير”. ولأن الأمر كذلك فإننا نخطئ كثيراً حين نعتبر تركيا وإيران مجرد “جارين” فرضتهما ظروف الجغرافيا، وتشاركنا معهما في التاريخ زمناً، ثم ذهب كل إلى حال سبيله بعد ذلك. ذلك بأن الدولة العباسية التي ورثت الخلافة الأموية قامت على أكتاف العناصر الفارسية، وفي زمانها تأسست أعظم المراكز الحضارية الإسلامية على قاعدة التفاعل بين الفرس والعرب، وبعد أقل من قرنين أصبحت العناصر التركية تلعب دوراً بارزاً في تاريخ المنطقة خصوصاً تحت مظلة الدولة العثمانية. ولكن دار الإسلام المشرقية انقسمت منذ القرن السادس عشر بين الصفويين في إيران والعثمانيين في تركيا. وقُدر لذلك الفصام النكد أن يمهد لتجزئة المشرق إلى أقطار شتى في أعقاب الحرب العالمية الأولى، حين اتفق المنتصرون في الحرب على تمزيق المنطقة وتقطيع أوصالها في ظل اتفاقية “سايكس بيكو” (عام 1916).
لم يبق من ذلك التاريخ الذي تراجع في الواقع وحفظته الكتب، سوى رابطة العقيدة، وبعض آثار التداخل بين الشعوب، التي تمثلت في انتشار الحرف العربي في إيران وتركيا (أتاتورك استبدل به الحروف اللاتينية في العشرينات) وفي تسرب الكلمات العربية إلى اللغات المحلية باعتبارها مفردات لغة القرآن، حتى أصبحت تمثل 40% على الأقل من مفردات اللغتين الفارسية والتركية. كما انتشرت الكلمات الفارسية والتركية في المجتمعات العربية التي عرفت “الكباب والكفتة والمسقعة والكشك والكحك والبقلاوة والخشاف والشوربة والطرشي والبقسمات والسميط” وهي كلمات فارسية وتركية. وتداولت ألسنة الناس كلمات فارسية أخرى مثل “البيجامة والدوبارة والفوطة والبراوز والجنزير والدبوس والدورق والشمعدان والكاسة والشاكوش والكباية والكنكة والكوز والدرابزين”، ولا تزال كثير من الأسماء الشائعة ورتب العساكر محتفظة بأصولها التركية مثل نشأت وعصمت ودولت وعفت وعزت، ومثل أومباشي وشاويش ويوزباشي وبكباشي وكراكون وياور وباشا، كما أننا ما زلنا نتداول في بيوتنا كلمات تركية مثل “الأودة والسفرة والبطانية والشنطة والشراب والجزمة ونينة وأبيه وأبلة (الأخ والأخت الكبيران)”. ولأساتذة اللغات الشرقية المصريين جهد طيب في هذا المجال استفدت منه، خصوصاً أبحاث الدكتور حسين مجيب المصري والدكتور محمد نور الدين عبدالمنعم والدكتورة ماجدة مخلوف.
هذه البصمات الباهتة للتاريخ لا تكاد تقارن بالحضور القوي لحقائق الجغرافيا، التي لم تتغير بفعل الزمن، وإنما أصبحت أكثر رسوخاً وأهمية.
(4)
لا يزال العرب والإيرانيون والأتراك يمثلون كتلة جغرافية متماسكة، تقع في خاصرة العالم، وتمثل شريحة أفقية تمتد من المغرب في أقصى الغرب حتى مشهد في إيران شرقاً، ومن تركيا في الشمال وحتى اليمن في الجنوب. وهي في موقعها المتمدد في إفريقيا وآسيا وجزء من أوروبا، تسيطر على أخطر الممرات البحرية في العالم، مضائق هرمز وباب المندب والبوسفور والدردنيل وقناة السويس، كما أنها تملك أكبر احتياطي عالمي في النفط، إلى جانب احتياطيات هائلة من الغاز تكاد تحتل المرتبة الأولى في العالم. وتمر عبرها شبكة أنابيب النفط والغاز الذي يغذي العالم الصناعي بأسره. ولا يزال القاسم المشترك الأعظم بين شعوب المنطقة هو أنها في أغلبيتها الساحقة يشدها رابط العقيدة الإسلامية.
هذه الخلفية التي توفر فرصة ممتازة لإقامة كتلة بشرية حية تغني حاضر الأمة ومستقبلها لا تبدو حاضرة في الاستراتيجية العربية، وفي غياب تلك الاستراتيجية فقد العالم العربي “بوصلته” الهادية. ولم يكن مفاجئاً بعد ذلك أن يضل طريقه وتتخبط مسيرته، فيتمزق صفه تارة ولا يعرف حلفاءه من أعدائه تارة أخرى، وأن يستدرج للانخراط بمخططات الآخرين واستراتيجياتهم في حين ثالثة، الأمر الذي فرض على الواقع العربي مجموعة من المفارقات منها ما يلي:
إن العلاقات الأمريكية العربية أصبحت أوثق وأمتن من العلاقات العربية العربية.
إن الولايات المتحدة أصبحت لها كلمة في خرائط المنطقة، وفرت لها فرصة تقسيمها إلى معتدلين ومتطرفين، بل وفرت لها جرأة التدخل في صياغة أوضاعها الاقتصادية والثقافية، إضافة إلى سياساتها الخارجية.
إن بعض الدول العربية تصالحت مع “إسرائيل”، في حين خاصمت دولاً عربية أخرى، كما خاصمت إيران.
إن البعض أصبح يرى أن إيران هي العدو الأول للعرب وليس “إسرائيل”.
إن “إسرائيل” أصبحت لاعباً مهماً في تركيا وإيران (قبل الثورة)، في حين ظل العالم العربي غائباً عن البلدين الجارين.
إن “إسرائيل” أصبحت تمثل في بعض الاجتماعات الأمنية المهمة التي تعقدها دول ما سمي “معسكر الاعتدال العربي”، في حين استهجن بعض العرب حضور إيران اجتماع مجلس التعاون الخليجي، واستنكر آخرون طلب تركيا الانضمام كمراقب إلى الجامعة العربية.
إن بعض المثقفين المنتسين إلى التفكير الاستراتيجي أسقطوا تركيا وإيران من دوائر الانتماء الثقافي والحضاري، وتحدثوا عن إضافة الدائرة الأمريكية كمجال لحركة مصر والعالم العربي.
كيف يستعيد مثلث القوة عافيته؟ نحاول الإجابة عن السؤال في الأسبوع المقبل بإذن الله