“فرصة خريفية” للمفاوض الفلسطيني
للمرة الأولى رفع المفاوض الفلسطيني التشكيك العلني في إمكان التوصل إلى اتفاق مع دولة الاحتلال “الإسرائيلي” قبل نهاية العام الحالي إلى المستوى الأرفع عندما أعلن الرئيس محمود عباس تشككه من القاهرة في السادس من سبتمبر/ ايلول الجاري، ثم كرر شكه في مقابلة نشرتها صحيفة “هآرتس” في الثاني عشر من الشهر لمناسبة مرور خمس عشرة سنة على توقيع اتفاق أوسلو، وبالرغم مما يعنيه ذلك من فشل ذريع لما اصطلح على تسميته ب”عملية أنابولس” وبالرغم من أن نهاية العام تحمل معها كذلك انتهاء الولايات الدستورية للشركاء الثلاثة في تلك العملية، وهم الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن ورئيس وزراء دولة الاحتلال إيهود أولمرت إضافة إلى الرئيس الفلسطيني نفسه، فإن عباس لم تحرجه أسئلة وزراء الخارجية العرب “المحرجة” حول جدوى استمرار المفاوضات أثناء لقائه معهم على هامش الدورة ال 130 لمجلس الجامعة العربية مؤخراً ليؤكد لهم: “يجب ألا نغادر طاولة المفاوضات، وهذا قرار نهائي”، على ذمة سفيره في العاصمة المصرية ولدى جامعة الدول العربية نبيل عمرو.
إن الرئيس عباس بعد كل لقاءاته الدورية مع إيهود أولمرت منذ مايو/ ايار عام ،2007 أي قبل اجتماع أنابولس وبعده، وبعد ما يزيد على 18 زيارة لوزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس، أكد لهآرتس: “إننا قدمنا أفكارنا ومطالبنا الخاصة بست قضايا لكننا لم نتلق أي جواب من الجانب “الإسرائيلي”، وللأسف فإنه حتى يومنا هذا لم يجر أي نقاش (حولها) في الحكومة “الإسرائيلية””. لماذا كانت كل تلك اللقاءات والزيارات اذن وماذا كان يدور فيها إلى حد أن يقول لهآرتس: “حتى في يومنا هذا فإنني متأكد أنني سأوقع اتفاقيات أوسلو (لو لم تكن قد وقعت). لقد خاطرت بحياتي من أجل السلام وإذا اضطررت لدفع حياتي ثمناً له فإن مثل هذا الثمن لا يزال هامشياً”. فعلام يراهن عباس ومفاوضوه؟
إنه سؤال تناوله كثير من المحللين والمعلقين من دون أي إجابة شافية وافية حتى الآن، وقد استنكف المفاوض الفلسطيني نفسه عن تقديم أي تفسير مقنع يبدد اتهامات المعارضة له بأنه يوغل في بيع شعبه آمالاً خادعة تعلقا منه بوعود أمريكية تكرر انكشاف كذبها من دون ان يفقد هذا المفاوض ثقته بها منذ فاته موعد يوليو/ تموز عام 1999 للتفاوض على قضايا الوضع النهائي وصولاً إلى الدويلة الفلسطينية الموعودة أو المرجوة مروراً بوعد بوش بإقامة هذه الدويلة عام 2005 ثم تكرار وعده في اجتماع أنابولس بإقامتها قبل نهاية العام الحالي، بحيث لم يترك المفاوض الفلسطيني لمعارضيه سوى اتهامه بأنه يصر على مواصلة التفاوض ليس فقط لأن التفاوض قد تحول إلى “مهنة” يحترفها البعض (ياسر عبد ربه لهآرتس في 28/2/2008) ويتحول من دونها إلى عاطل عن العمل بل الأهم لأن استمرار المفاوضات كان منذ انطلاقها في مؤتمر مدريد عام 1991 هو المسوغ الوحيد لتجميد وتهميش المؤسسات التمثيلية لمنظمة التحرير الفلسطينية ولحركة التحرير الوطني الفلسطيني “فتح” التي تقودها قبل أن يتحول إلى المسوغ الوحيد للانقسام الوطني الفلسطيني منذ فوز حركة المقاومة الإسلامية “حماس” في انتخابات عام 2006 التشريعية ولأن وقف المفاوضات سيفتح الباب واسعاً لتفعيل مؤسسات المنظمة وحركة فتح ولاستعادة الوحدة الوطنية بكل ما يعنيه ذلك من تغييرات قيادية وسياسية جذرية يرفضها المستفيدون من إطالة أمد الوضع الراهن ويبذلون قصارى جهودهم لعدم إجرائها.
لقد رشحت ثلاثة مؤشرات خلال الأسبوع الماضي ربما توضح بعضا مما يراهن عليه المفاوض الفلسطيني وتسوغ استمراره فيما أدمن عليه من اللهاث وراء السراب الأمريكي، أولها إن إدارة بوش تخطط لإصدار “رسالة ضمانات” قبل انتهاء ولايتها تتعهد فيها الولايات المتحدة بدعم أي اتفاقيات يتم التوصل إليها في المفاوضات الفلسطينية “الإسرائيلية” الحالية بهدف الزام الإدارة الأمريكية الجديدة التي ستخلفها ودولة الاحتلال “الإسرائيلي” وسلطة الحكم الذاتي الفلسطيني بها، وفي هذا السياق يمكن فهم تصريح القنصل الأمريكي في القدس جاكوب والاس لصحيفة “الأيام” يوم الاربعاء الماضي عن موافقة الجانبين المتفاوضين “على التفاوض” حول القدس وهو التصريح الذي سارعت وزارتا الخارجية في واشنطن وتل أبيب إلى نفيه في اليوم نفسه، وقالت “وورلد نت ديلي” التي أوردت الخبر انها حصلت أيضاً على نسخة من “خطة أمريكية” تمنح “بعض السيادة البلدية والأمنية على احياء عربية رئيسية في القدس الشرقية تسمح بإعادة فتح بعض المؤسسات الرسمية في القدس وبإمكان انتخاب رئيس لبلدية الجانب الفلسطيني من المدينة وبنشر نوع مما يسمى قوة أمنية أساسية للحفاظ على القانون والنظام”، وربما تكون هذه الخطة هي مصدر اقتراح مماثل أعلنه مؤخراً وزير الحرب “الإسرائيلي” إيهود باراك ورفضه الرئيس عباس، وربما تكون هذه أيضاً هي بعض “الأفكار الجديدة” التي عرضتها رايس خلال زيارتها الأخيرة لرام الله، كما قال المتحدث باسم الرئاسة نبيل أبو ردينة، واثارت “التفاؤل” في أوساط الوفد الفلسطيني المفاوض، وربما يكون هذا جميعه أو بعضه هو ما يراهن الرئيس عباس على استيضاحه من جورج بوش عندما يلتقيه في 26 الجاري في نيويورك.
ويتمثل المؤشر الثاني في مراهنة المفاوض الفلسطيني على فوز رئيسة الوفد المفاوض ووزيرة خارجية دولة الاحتلال تسيبي ليفني بزعامة حزب “كاديما” الذي يقود الائتلاف الحاكم الحالي وبالتالي بخلافة أولمرت في رئاسة الحكومة، أولاً لأن فوزها لن يؤثر في “التقدم” الذي احرزته المفاوضات، وهو التقدم الذي كرر أولمرت وليفني ورئيسهما شمعون بيريس وغيرهم الاشارة اليه وكرر قريع نفسه وغيره من مفاوضيه نفيه، وثانياً لأن مواقفها “متقاربة نسبيا” مع المواقف الفلسطينية، وثالثاً لأن شاؤول موفاز وآفي ديختر، “الخبيرين الأمنيين” المنافسين لها، ليسا مناسبين من التجربة السابقة معهما، كما قال نظير ليفيني الفلسطيني أحمد قريع لمجموعة من صحافيي 1948 الفلسطينيين التقاهم في منزله بابو ديس الأسبوع قبل الماضي، ولم ينس قريع تحذيرهم بأن “هذا يجب ألا يظهر في وسائل الإعلام “الإسرائيلية” حتى لا يضر ذلك بالمصالح الفلسطينية”، التزاماً منه بموقف المفاوض الفلسطيني الرسمي “بعدم التدخل في الشؤون الداخلية “الإسرائيلية”” بالرغم من التدخل “الإسرائيلي” سراً وعلناً في كل صغيرة وكبيرة في الشأن الداخلي الفلسطيني. وكان الرئيس عباس قد استبعد علنا باراك كشريك في المفاوضات، أما بنيامين نتنياهو المنافس الأقوى لكل هؤلاء في أي انتخابات مقبلة فإن فوزه كما يقول معظم المراقبين والمحللين سيكون ضربة مميتة لعملية أنابولس. ومما يسند هذا المؤشر الرسالة التي وزعتها ليفني على أعضاء “كاديما” عشية انتخابات الحزب يوم الاربعاء في السابع عشر من الشهر الجاري وتعهدت فيها بالعمل من أجل “توقيع اتفاق وضع نهائي”، ووعدت بالعمل من أجل “الوصول إلى اتفاق دائم عبر الحوار مع الفلسطينيين البراغماتيين بينما تناضل بحزم ضد المتطرفين الفلسطينيين”.
أما المؤشر الثالث فقد كشف عنه الشريك “الإسرائيلي” في “مبادرة جنيف” يوسي بيلين في مقال له ب”هآرتس” ويتمثل في ما اسماه “نافذة الفرصة” الخريفية بين شهري نوفمبر/ تشرين الثاني 2008 ويناير/ كانون الثاني 2009 حيث لا يزال “الأمل” فيها باقياً كي يحاول بوش الوفاء بوعود أنابولس، لأن سلفه بيل كلينتون قد استغل نافذة الفرصة الخريفية ذاتها في أواخر عهده لتقديم رؤيته لحل نهائي في قمة كامب ديفيد عام الفين، ولأن نظيره السابق رونالد ريغان استغل أيضاً النافذة الخريفية إياها في نهاية ولايتيه للاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية. ومما لا شك فيه أن بيلين قد سوق “آماله” لدى المفاوض الفلسطيني في رام الله عندما زارها الأسبوع الماضي ليعلل هذا المفاوض نفسه بمزيد من الآمال الأمريكية التي لم تترك تجربة الستين عاما المنصرمة مجالاً لأحد للشك في خداعها، ربما باستثناء هذا المفاوض الذي لا يترك له بائعو وهم السلام فرصة لالتقاط أنفاسه للاسترشاد بمرجعياته الوطنية ومؤسساتها كما بنبض جماهيره من أجل إجراء مراجعة شاملة لمسيرة مفاوضات عقيمة كانت نتائجها معاكسة بشكل قاطع لأهدافها المعلنة حيث يترسخ الاحتلال بدل ان يتفكك وتبدو الدويلة الموعودة أبعد منالاً بدل أن تظهر حتى لبناتها الأولى إلى الوجود. وفي هذا السياق تأتي زيارة ممثل الاتحاد الأوروبي خافيير سولانا الذي عود سولانا المفاوض الفلسطيني على ان يقفز متدخلاً كلما وصل التفاوض إلى طريق مسدود، خصوصاً عندما تتوقف حركة الوسيط الأمريكي لهذا السبب أو ذاك، كما يحدث حالياً مع انطلاق حملة انتخابات الرئاسة الأمريكية، لكي يبقى وهم السلام حيا ولكي يمد المفاوض الفلسطيني بطاقة جديدة لمواصلة لهاثه وراء السراب الأمريكي الخادع، وكم يتمنى هذا المفاوض وشعبه لو يقفز سولانا متدخلاً لمرة واحدة لكي يمارس سياسياً ما للاتحاد الأوروبي من وزن اقتصادي ولكي يضع اليد الأوروبية حيث جيبها ولسانها.
إن المفاوض الفلسطيني يسبح واهما وراء سراب خادع ضد تيار جارف في الاتجاه المعاكس يهدد القضية الوطنية بأوخم العواقب، تيار يراهن على استمرار الوضع الفلسطيني الراهن، وتظل “نافذة الفرصة” التي يوهمونه بها خريفية ليس من المتوقع أن تنبت أي زرع، حيث تتخذ “الأحداث على الأرض، منعطفاً مختلفاً اختلافاً حاسماً، واحتمالات أي عملية سلام ذات مصداقية تبدو بعيدة ووهمية كما كانت دائماً” كما خلصت مجموعة الأزمات الدولية في تقرير لها يوم الخميس الماضي، وحيث “عملية السلام في شكلها الحالي محكوم عليها بالفشل عملياً، بسبب غياب أي دبلوماسية رسمية أمريكية، وبسبب رفض الأطراف الاعتراف بالحقائق السياسية الفلسطينية للتعامل مع حماس، ولأن السياسيين في الولايات المتحدة و”إسرائيل” منشغلون بكل قضية أخرى تحت الشمس فإنه سيتم بهدوء وضع ما يسمى عملية أنابولس للسلام في الشرق الأوسط، على الرف” كما خلص مركز “أوكسفورد اناليتيكا” إلى القول في نشرته للأسبوع من 13 19 الشهر الجاري.