عين على العدو

مفاجأة حوارات القاهرة

ما لم تحدث مفاجأة غير متوقعة، فإن حوارات الفصائل الفلسطينية في القاهرة قد تسفر عن نقلة نوعية في مسألة المصالحة الوطنية التي طال انتظارها.


 


(1)


 


ليس سراً أن مقدمات الحوار لم تكن مبشرة بالتفاؤل، وإنما كانت مرجحة وبقوة لسيناريو التشاؤم والفشل. وقد كنت واحداً من هؤلاء الذين لم يتوقعوا نجاحاً للحوار، الذي حين بدأ في 25 أغسطس الماضي، وصفه عبد القادر ياسين، القيادي في الجبهة الشعبية، بأنه “طبخة حصى”، وهو مصطلح فلسطيني يعبر عن عدم الجدوى. المتشائمون كانت لديهم أسبابهم القوية، أحدها وربما أهمها أن الإدارة الأمريكية وقفت دائماً ضد المصالحة بين فتح وحماس. وهو ما أعلنه السيد عمرو موسى الأمين العام لجامعة الدول العربية، الذي تحدث عن أن هناك “فيتو” يغلق الباب في وجه المصالحة، كما أن عزام الأحمد رئيس كتلة فتح في المجلس التشريعي صرح بذلك أكثر من مرة، مشيراً إلى أن الفيتو أمريكي بالتحديد.


 


في وجود ذلك “الفيتو” تشدد أبو مازن ورفع سقف شروطه عالياً، فأعلن هو وممثلوه أنه لا حوار ولا سلام أو كلام مع حماس إلا بعد إعادة الأوضاع في غزة إلى ما كانت عليه قبل ما أسماه “الانقلاب”، الذي وقع بالقطاع في شهر يونيو 2007. في الوقت ذاته فإنه وضع قائمة من الشروط وصفها بلال الحسن الكاتب والسياسي الفلسطيني المستقل بأنها تستهدف إخراج حماس من المشهد السياسي الفلسطيني، من خلال التخلص من أغلبيتها البرلمانية والتخلص من شرعيتها في الحكومة بما يؤدي إلى استئصالها واعتبارها حركة غير شرعية وربما إرهابية (الشرق الأوسط 13/7/2008).


 


أيضاً فإن التصريحات التي صدرت بعد اجتماع مجلس وزراء الخارجية العرب الأخير بالقاهرة أعطت انطباعاً، بأن ثمة إعداداً لاحتشاد جديد على مستوى عربي للمواجهة مع حماس انتصاراً لأبو مازن، وانحيازاً إلى صفه ومشروعه. وكان ذلك واضحاً في البيان المشترك الذي صدر عن الاجتماع، الذي استخدم- لأول مرة – لغة تهديدية حذر فيها الطرف أو الأطراف التي تعرقل مساعي الوساطة المصرية، وصلت إلى حد الحديث عن عقوبات. وهو الموقف الحاد الذي عبرت عنه تصريحات لاحقه لعمرو موسى ولوزير الخارجية المصري أحمد أبو الغيط.


 


حين تزامنت تلك التصريحات مع اقتراح إرسال قوات عربية إلى غزة دون الضفة، فإنها تركت انطباعاً بأن ذلك تمهيد لشيء لم يعلن، له علاقة بالادعاء بأن حماس خارجه على الإجماع الفلسطيني، ومن ثم تستحق ردعاً وتأديباً.


 


(2)


 


هذه الملابسات أثارت شكوك الأوساط الفلسطينية المستقلة والمراقبين المحايدين، ذلك أن هؤلاء يعرفون جيداً أن الفصائل التي دعيت إلى القاهرة لم تحصل إلا على 2% من الأصوات في الانتخابات التشريعية. وذلك دليل على أنها لا تتمتع بحضور حقيقي في الشارع الفلسطيني، وهو ما يشكك في أن مسألة “الإجماع” هذه ليست سوى حيلة لتسويغ خطوات أخرى غير معلنة.


 


من ناحية أخرى فإن “السيناريو” الذي اقترح في البداية لإدارة الحوار كان مثيراً للشك، إذ فهم منه أن المراد هو حشر حماس في الزاوية، من خلال الاتفاق على ورقة تتضمن شروطاً وإجراءات معينة، تضعها أمام خيار لا تستطيع رفضه، وإلا اعتبرت خارجه على الإجماع الفلسطيني. ويفترض في هذه الحالة أن الورقة معدة سلفاً بالتفاهم مع ممثلي السلطة.


 


عمق من الشكوك هذه أنه في أعقاب اجتماع مجلس الجامعة العربية، وحين بدأت ترتيبات الحوار، انطلقت حملة إعلامية مكثفة استهدفت التحريض على حماس، ودعوة العالم العربي إلى ضرورة التدخل لردعها وتأديبها. أحدث نموذج لذلك مقالة كاشفة نشرتها “الشرق الأوسط” (في 8/10) تحت عنوان “ماذا سنفعل مع حماس؟” – رد كاتبها على السؤال بقوله: إن نقطة الانطلاق هي انتخابات جديدة للرئاسة والمجلس التشريعي، إذا فازت فيها حماس فإن التناقض الراهن سوف ينتهي، وعليها في هذه الحالة أن تتحمل المسؤولية التاريخية عن القضية. وساعتها سوف يكون على كل دولة عربية أن تبحث عن مصالحها(!). أما إذ كان للشعب الفلسطيني اختيار آخر (فتح في هذه الحالة)، فإن العالم العربي سيكون عليه أن ينزع الشرعية عن التيارات الفلسطينية التي تحمل السلاح ضد السلطة الوطنية المنتخبة.


 


من الخلاصات المدهشة التي توصل إليها المقال، أن الانتخابات الفلسطينية المفترضة “لن تكون بين فصائل ومنظمات وأشخاص، وإنما سوف تكون حول منهج للتحرير من خلال المفاوضات (يقوده أبو مازن!) وآخر لبقاء الاحتلال (تمثله حماس)، وسبيلاً لتحقيق وحدة الشعب الفلسطيني، وآخر لتكريس التقسيم والانفصال فيه، وطريقاً للعودة إلى العالم، وآخر يأخذ في اتجاه الانفصال عنه بل ومعاداته”.


 


هذا النص النموذجي يسقط احتمال المصالحة تماماً من الخيارات، ويحذر من أن التصويت لحماس سيؤدي إلى تخلي الدول العربية عن القضية. ويذهب في انحيازه لأبو مازن إلى حد خداع القارئ والادعاء بأنه يقود نهج التحرير (هكذا مرة واحدة)، في حين أن حماس تسوغ استمرار الاحتلال!!


 


(3)


 


النتائج التي تحققت حتى الآن جاءت معاكسة للمقدمات، حتى إن “طبخة الحصى” بصدد أن تصبح طبخة حقيقية. وتلك مفاجأة قلبت التوقعات والحسابات. ورغم أن نتائج الحوارات التي أدارها في القاهرة الوزير عمر سليمان لم تتبلور حتى الآن – فيما هو معلن على الأقل – فإن ثمة اتجاهات برزت وكادت تصبح محل اتفاق، تتلخص فيما يلي:


– أن مناقشة ترتيب البيت الفلسطيني ستبدأ بحوار مباشر بين ممثلي فتح وحماس، يفترض أن يجري في الأسبوع الأخير من الشهر الحالي (25 أكتوبر تقريباً)، على أن تلتقي الفصائل لإعلان الاتفاق على الخطوات المستقبلية في الأسبوع الأول من الشهر التالي (5 نوفمبر تقريباً).


 


– ستشكل حكومة وفاق وطني (تصدر قراراتها بموافقة الجميع)، بعد استبعاد خيار حكومة التكنوقراط وتعذر تشكيل حكومة الوحدة الوطنية. وسيكون هذا الموضوع أحد ملفات خمسة ستبحثها لجان تمثل الجانبين (فتح وحماس)، والملفات الأربعة الأخرى تغطي إجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية – وإعادة بناء الأجهزة الأمنية – وإعادة الوضع كما كان عليه في الساحة الفلسطينية، قبل الحسم الذي شهدته غزة في يونيو 2007- وإعادة بناء منظمة التحرير.


 


– فكرة إعادة الأوضاع إلى سابق عهدها ستطبق في غزة والضفة، بحيث يتم إطلاق سراح المعتقلين على الجانبين، وإعادة المؤسسات والجمعيات الأهلية التي تم الاستيلاء عليها. والتراجع عن الإجراءات والمراسيم التي اتخذت لمعالجة الأوضاع التي طرأت بعد الحسم.


 


– إعادة بناء الأجهزة الأمنية، سيستبعد منها القادة السابقون للأجهزة الذين قادوا عملية توتير الأوضاع وإشاعة الفلتان الأمني. وستتم الاستعانة بفريق من الخبراء العرب في عملية إعادة البناء.


 


– استبعدت فكرة إرسال قوات عربية، والاكتفاء بفريق الخبرة العربية، خصوصاً بعدما اشترطت “إسرائيل” للموافقة على دخول القوات العربية أن يكون على رأس مهماتها وقف إطلاق الصواريخ ضد مستوطناتها وضبط الأمن الداخلي. وهو ما فهم منه أنها تريد لهذه القوات أن تتولى تأمين حدودها، بحيث تعمل لصالحها وليس لصالح الفلسطينيين.


 


(4)


 


هذه الخلاصات تمثل مفاجأة للمتابعين والمراقبين، من حيث إنها تعبر عن تحول لم يكن متوقعاً في سقف الحوار وشروطه، والنقطة الجوهرية في ذلك التحول أنه يضم حماس ولا يستبعدها. ويتبنى نهج الاتصال لا الاستئصال، الأمر الذي يطرح أكثر من سؤال حول أسبابه ودوافعه.


 


حين تحريت هذه النقطة، وجدت أن ثمة متغيرات عدة طرأت في الأسابيع الأخيرة، أسهمت في تغيير إستراتيجية التعامل مع الأزمة.. هذه المتغيرات يمكن تلخيصها في النقاط التالية:


 


– فلسطينياً ظل الوضع متماسكاً في غزة طوال 16 شهراً، ولم يحدث الانفجار أو الانهيار الذي راهنت عليه مختلف الأطراف. وهذا التماسك مرشح للاستمرار، لكن هناك استحقاقين مهمين يتعين بسببهما التفاهم مع حماس، أولهما انتهاء ولاية الرئيس محمود عباس في 9 يناير، وضرورة الاتفاق على مصير المنصب قبل ذلك التاريخ. وثانيهما انتهاء فترة التهدئة مع الإسرائيليين في 19 ديسمبر القادم، والحاجة إلى تحديد مصيرها بعد ذلك، خصوصاً بعد النجاح النسبي الذي حققته. وعزز من ضرورة الاتفاق أو التوافق الفلسطيني أن كل الآمال التي علقت على مفاوضات السلام تبخرت مع نهاية العام. وأن “إسرائيل” قامت في ظل تلك المفاوضات بتغييرات جسيمة على الأرض، توسع بها الاستيطان وتوحش، مما وضع عقبات كبرى تحول دون استحالة تحقيق أي من الوعود التي جرى التلويح بها، متعلقة بإقامة الدولة الفلسطينية.


 


– عربياً وإقليمياً، فإن الخطة التي دعا إليها أبو مازن في البداية، والتي دعت إلى إقصاء حماس فقدت بريقها، ليس فقط لأنه لم يستطع أن يحقق شيئاً مما وعد به في المفاوضات مع “إسرائيل”، ولكن أيضاً لتعذر انعقاد الإجماع العربي حول الخطوات التنفيذية التي اقترحها، رغم أن بيان الجامعة العربية أيده في موقفه الإجمالي. وقد أدرك الجميع ذلك أثناء الاتصالات الدبلوماسية العربية التي جرت خلال الأسابيع الأخيرة.


 


– المتغير الأهم والأقوى تأثيراً كان دولياً. ذلك أن الإدارة الأمريكية أعادت النظر في “الفيتو” الذي استخدمته ضد المصالحة بين فتح وحماس. وسواء تم ذلك لأنها أدركت أن موقفها الداعم لاستمرار الحصار لم يحقق النتائج التي توختها، أو لأنها عجزت عن الوفاء بوعد بوش إنجاز حل الدولتين قبل نهاية العام، أو لأن هناك إعداداً لاستقبال إدارة جديدة في البيت الأبيض. فالشاهد أن هذا الفيتو لم يعد قائماً الآن. ومعلوماتي أن رئيس المكتب السياسي لحماس خالد مشعل تلقى رسالة بهذا المعنى من وزيرة الخارجية الأمريكية كوندليزا رايس، سلمت إليه في دمشق، في بداية الأسبوع الماضي، قبل وصول وفد حماس إلى القاهرة. وكانت الأولى من نوعها في تاريخ العلاقات بين حماس والإدارة الأمريكية (يفترض أن الرسالة أبلغت إلى بقية الأطراف المعنية أيضاً). وفهمت أن وزيري خارجية فرنسا وألمانيا بعثا إلى حماس بإشارات تمهيدية في هذا الصدد. وأن زيارة الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر لدمشق قبل أربعة أشهر، ولقاءه قادة حماس هناك لم تكن بعيدة عن هذا السياق.


 


لا يبدو هذا التحول مفاجئاً تماماً، لأن الأجواء الدولية التي احتملت حواراً تحت رعاية سعودية، بين حكومة حامد كرزاي وطالبان في أفغانستان، تهيئ الأذهان للقبول بفكرة مد جسور الحوار بين فتح وحماس، بصرف النظر عن النوايا والمقاصد المرجوة من وراء ذلك.


 


إن رياحاً جديدة تهب في العالم الغربي هذه الأيام، ليس فقط في عالم الاقتصاد الذي تزلزلت أركانه في قلاع الرأسمالية، ولكن في عالم السياسة أيضاً. وهذا شيء مهم لا ريب، ويظل الأهم أن نتسلم رسائل تلك الرياح، وأن نقرأها جيداً.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى