المغزى الفعلي لشعار “الدولة اليهودية”
شهد العام الجاري 2008 تركيزاً في تل أبيب على “يهودية الدولة”. بدا هذا المطلب في عيون كثيرين نافلاً، فالدولة الصهيونية هي في واقع الحال يهودية، فالعبرية هي اللغة الرسمية والنجمة السداسية هي الرمز الرسمي، والتعليم الديني المدعوم حكومياً هو تعليم توراتي، وباب القدوم من الخارج مفتوح لكل يهودي كي “يعود” إلى أرض فلسطين.
ليس هناك ما يثير أي انطباع أو لبس حول هوية الدولة المحسومة. وقد سبق للجانب الفلسطيني ممثلاً بمنظمة التحرير أن اعترف بدولتهم بل “حق تلك الدولة في الوجود” وهي صيغة لا سابق لها في الاعتراف.
أخيراً تطورت المطالب نحو السعي لانتزاع اعتراف إضافي بالدولة اليهودية. الدعوة صدرت عن أولمرت وأركان حزب كاديما غير الديني الذي يكاد يكون علمانياً، كما هو حال حزب العمل. لم تلق الدعوة في سياق المفاوضات الجارية استجابة حتى الآن على الأقل من الجانب الفلسطيني، لكنها لقيت في مناسبات مختلفة قبولاً حاراً من طرف الرئيس الموشك على الانصراف بوش.
لا يقوم هذا المسعى على مزاعم دينية فحسب، لكنه في هذه المرحلة يقوم على تسخير الدين لتحديد وجهة ومضمون أي تسوية مقبلة إذا حدثت، فإذا لم تتم، فإن الجانب “الإسرائيلي” من جهته يتولى المبادرة لتطبيق مفهوم الدولة اليهودية وهو ما بدأ يحدث بالفعل. بتكريس الانطباع أولاً بأن عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم التي شردوا منها في العام 1948 هي “أمر مستحيل” لما يشكله حسب طروحاتهم من “خطر” على دولتهم.
مع طرح شعار الدولة اليهودية والتمسك به فإنه يضاف سبب آخر لمنع عودة هؤلاء، فاليهود هم من “يعودون إلى دولتهم” وليس غير اليهود. بذلك يتبدى المغزى الأول لطرح هذا الشعار الذي تعبر عنه تسيبي ليفني رئيسة الحكومة المكلفة بأن “”إسرائيل” هي الوعاء القومي لليهود والدولة الفلسطينية هي الإطار الوطني للفلسطينيين”. وبما أنه ليست هناك من دولة قائمة بعد للفلسطينيين، فإنه يجري الاكتفاء بتفعيل الشطر الأول من المعادلة.
كيف؟ بتغليب العنصر اليهودي بصورة حاسمة في دولتهم. وهذا هو المغزى الثاني للشعار. أحداث عكا في الأسابيع الثلاثة الأخيرة، هي شاهد على هذه السياسة. العرب العكاويون هم قرابة ثلث السكان : نحو 22 ألفاً مقابل 40 ألفاً من اليهود المستوطنين. لكن عكا تحتفظ بطابع عربي وإسلامي في البناء والمآذن والأسواق والقلعة. وهو ما يثير حفيظتهم كما يؤرقهم عدد سكانها الأصليين غير الكبير. لقد تم فرض حظر التجول على العرب من مسلمين ومسيحيين في المدينة بمناسبة عيد الغفران اليهودي الذي لا يتنقل فيه اليهود. علماً بأنه يتاح لليهود تناول الأطعمة والأشربة بصورة علنية في شهر رمضان مثلاً، من دون أن يستوقفهم أحد بل دون اعتراض من المسلمين.
محاولة فرض تقاليد يهودية على غير اليهود، ترمي ببساطة إلى تهويد قسري للمدينة ولنمط الحياة فيها، وتتفق مع الإعلاء من شأن شعار الدولة اليهودية والتوسع في تطبيقه على الأرض. وقد تم بالفعل استقدام مئات من المستوطنين للإقامة في عكا لمناصرة “اليهود المهددين”!.
بهذا فإن شعار يهودية الدولة ليس مجرد شعار تفاوضي أو تعبوي، بل هو عنوان لخطة سياسية رهن التنفيذ، تقوم بين ما تقوم عليه على التضييق على العرب أبناء البلاد وحصر رقعة وجودهم. وهو ما يفسر قيام ليفني بزيارة المدينة وتحميلها المسؤولية لشاب عربي “تجرأ” على التنقل بسيارته ليس بعيداً عن مكان سكناه في يوم يعتصم فيه اليهود ببيوتهم طلباً للغفران.
يبلغ عدد العرب نحو مليون ونصف المليون وكان عددهم لا يربو على 75 ألفاً عام 1948. هؤلاء الصامدون هم من حافظوا بثباتهم وبسالتهم على الهوية الوطنية والعربية لفلسطين التاريخية.
في المطبخ السياسي الصهيوني يجري التحضير لمحاولة تهجير هؤلاء إلى الضفة الغربية، مقابل نقل أعداد من المستوطنين من الضفة إلى داخل الخط الأخضر، في عملية تبادل سكاني تترافق مع تعديلات على الأراضي. ربما يعتبر الصهاينة نقل العرب من مدنهم وبلداتهم الأصلية إلى الضفة بمثابة تحقيق للشعار الفلسطيني والعربي “عودة اللاجئين”. وبينما يجري التلهي بمفاوضات عقيمة لا سقف زمنياً ولا مرجعية سياسية لها، فإن الطروحات التفاوضية “الإسرائيلية” يجري تطبيقها على الأرض، دون انتظار موافقة عليها من الجانب الآخر أو أي طرف في العالم.
الآن تتردد تقارير صحافية بأن هناك تدابير يجري الإعداد للشروع بها ضد مدينتي حيفا ويافا، وكلاهما ما زالتا تحتفظان بطابع عربي في الهوية المعمارية ونمط الحياة السائد، إلى كثافة سكانية ملحوظة للعرب فيهما.
بهذا بينما يتم انتظار خلاص تفاوضي، بعد التلهي على مدى أربع سنوات بوعود بوش و”رؤية الدولتين” المزعومة، بينما يحدث ذلك على الجانب الفلسطيني، فإن الطرف الآخر يمضي في تنفيذ مخططات تهدف بين ما تهدف إليه إلى إعادة الهندسة الديمغرافية بترحيل العرب أبناء البلاد. ما يثير الأمل أن هؤلاء متمسكون بصلابة بأرضهم ويرفضون الانتقال إلى مكان آخر والقبول بخدعة: “لكل دولته التي يسبغ هويته فيها”. علماً بأن الدولة الفلسطينية العتيدة، غير مرشحة للقيام خلال أي أفق منظور. وحتى لو قامت فهم يرفضون الانتقال، ويعتبرون الأمر غير قابل للبحث.