التناقض القاتل لوحدة الصف الفلسطيني
لاتفاق فلسطيني فلسطيني جديد فإن مصير أي اتفاق كهذا لن يختلف عن مصير الاتفاقات التي توصلت إليها وساطات عربية سابقة، أو يختلف عن الإخفاق في وضع الاتفاقات الفلسطينية البينية التي تم التوصل إليها دون وساطة مثل “وثيقة الأسرى” موضع التنفيذ، لأن الوساطات العربية والحوارات الفلسطينية ما زالت مرتهنة للتناقض القاتل بين الالتزام بالبرنامج السياسي الفلسطيني العربي وبين افتقاد المقومات الوطنية لأمن القضية الفلسطينية التي لم تعد قضية عربية “مركزية” أو قضية مركزية لهذا القطر العربي أو ذاك إلا بقدر ما تخدم الأهداف “الوطنية” لهذه الدولة العربية أو تلك، وفي هذه النتيجة شبه المؤكدة لعملية الولادة القيصرية الجارية في القاهرة يكمن بالتأكيد التفسير للضوء الأخضر الذي تعطيه دولة الاحتلال الإسرائيلي وراعيها الأمريكي لشريكهما الفلسطيني في “عملية السلام” لمواصلة حواره مع من يصنفهم الاحتلال وراعيه ك”إرهابيين”.
ويوجد مفتاحان لنجاح الحوار الفلسطيني المرتقب الذي تتوسط فيه مصر برعاية عربية أوائل هذا الشهر، هما الاتفاق أولاً على إعادة هيكلة قوى الأمن التابعة لسلطة الحكم الذاتي وتوحيدها عقيدة وقيادة ومرجعية، والاتفاق ثانياً على البرنامج السياسي الذي سيتوحد على أساسه الصف الفلسطيني، وقد كان عدم الاتفاق على هاتين المسألتين وراء انهيار كل الوساطات السابقة ووراء بقاء كل الاتفاقات التي تم التوصل إليها حبراً على ورق، وكل الدلائل تشير إلى أن استمرار عدم الاتفاق على المسالتين سيقود إلى انهيار الوساطة المصرية بدورها أو إلى إجهاض أي اتفاق تنجح في التوصل إليه كما حدث مع “إعلان القاهرة” و”وثيقة الأسرى” و”اتفاق مكة” المكرمة و”المبادرة اليمنية” و”إعلان صنعاء”.
ويكفي المراقب متابعة الحوار الساخن بين طرفي الانقسام على الهواء مباشرة عبر وسائل الإعلام ليدرك أن من لا يريدون الانتظار بضعة أيام لبدء الحوار في القاهرة لكي “يعلنوا” شروطاً مسبقة إضافية للاتفاق (مثل الالتزام بالبرنامج السياسي للمنظمة وبالاتفاقيات التي وقعتها كشرط مسبق لتأليف حكومة وطنية وللمشاركة في الانتخابات ولدخول منظمة التحرير) إنما يفتقدون الحرص على إنجاح الحوار ويسعون إلى إملاء شروطهم لا إلى الحوار حولها.
وفي ثنائية الأمن الوطني والبرنامج السياسي الفلسطينيين كان البرنامج السياسي الذي تلتزم به منظمة التحرير هو الخطر الأكبر على امن القضية الفلسطينية يهدد بتصفيتها لأنه تقزم بحكم الأمر الواقع إلى مجرد التزام بالتفاوض “فقط” وأسقط منذ توقيع اتفاق أوسلو عام 1993 كل الخيارات الأخرى حتى المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة وإلى التزام بـ”عملية سلام” لا نهاية لها تحولت إلى غطاء “شرعي” فلسطيني لخلق حقائق احتلالية على الأرض تكاد تنسف تماماً أي أسس واقعية مادية لذلك البرنامج الذي خلق التناقض بين جناحي هذه الثنائية وقاد إلى الانقسام القائم، ليس بين فتح وبين حماس فقط، بل بين فتح وفتح وبين فتح وسلطة الحكم الذاتي وحكومتها حيث يقول المنقسمون في بعضهم أكثر مما تقوله حماس فيهم، ويكفي أمثلة التصريحات الأخيرة للعديد من قيادات فتح دون الحاجة إلى ذكر الأسماء لأن المطلوب هو إطفاء نار الفتنة لا صب الزيت عليها نيابة عن الاحتلال.
ولم يكف هذا “البرنامج المقزم” الذي يتآكل يومياً أنه جرد النضال الوطني من كل الخيارات الأخرى غير “الاشتباك التفاوضي” وجرده من كل الخيارات “السياسية” الأخرى سوى الوثوق بحسن النوايا الإسرائيلية والوعود الأمريكية لكنه تحول إلى “براءة ذمة” فلسطينية فتحت أبواب العواصم العربية والعالمية أمام الاحتلال ليزيد عدد الدول التي اعترفت بدولته على أكثر من ستين دولة بعد توقيع اتفاق أوسلو، وتحول في تخبطه التفاوضي إلى معبر إسرائيلي لتضييق الخناق السياسي على النضال الوطني بتجريده من أوراق قوته السياسية في عمقه الجيبوليتيكي المباشر لأنه سوغ للدول العربية التي أسقطت خيارها العسكري بجنوحها إلى السلام كـ”خيار استراتيجي” أن تتذرع بحجة أنها “لا يمكن أن تكون فلسطينية أكثر من الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني” لكي تسارع إلى إبرام معاهدات السلام المنفردة ثم لتعتمد “بالإجماع مبادرة السلام العربية” لتسقط بذلك من يد المفاوض الفلسطيني ورقة سياسية حيوية للقضية الفلسطينية تتمثل في الاعتراف العربي بدولة الاحتلال وإقامة العلاقات معها قبل أن تعترف هذه الدولة حتى بما هو دون الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية.
وتجلى التناقض القاتل بين الالتزام بهذا البرنامج السياسي وبين افتقاد المقومات الوطنية لأمن القضية الفلسطينية عندما هرب رئيس دولة الاحتلال شمعون بيريس إلى الأمام – عبر المعبر الفلسطيني إياه الذي فتحه برنامج منظمة التحرير أمام دولة الاحتلال إلى الدول العربية – من استحقاقات الاتفاقيات الموقعة مع الجانب الفلسطيني لكي يعلن بعد أول قمة مصرية إسرائيلية منذ عام 1994 في شرم الشيخ “قبول” دولته لأول مرة بمبادرة السلام العربية من حيث “المبدأ” ويعرض التفاوض عليها، مما يعني عملياً ارتهان فتح الطريق المسدود الذي وصل إليه المسار “الثنائي” الفلسطيني الإسرائيلي لفتح معبر السلام العربي الجماعي مع دولة الاحتلال، وهذه وصفة مؤكدة لعشرين عاماً أخرى من “الاشتباك التفاوضي” على المسار الفلسطيني من المؤكد بعدها أنه لن يبقى على الأرض لأي مفاوض فلسطيني ما يشتبك تفاوضياً عليه، تماماً مثلما هرب رئيس وزراء دولة الاحتلال إيهود أولمرت عام 2000 إلى الأمام إلى قمة كامب ديفيد للتفاوض على “قضايا الوضع النهائي” لكي يتنصل من تنفيذ المرحلة الثالثة من الاتفاق الانتقالي، وكانت هي الأكثر أهمية من سابقتيها، لإعادة انتشار قوات الاحتلال في الضفة الغربية حسب الاتفاقيات الموقعة، والمفارقة أن هذا استحقاق ما زالت دولة الاحتلال تتنصل منه دون أن تشترط منظمة التحرير مسبقاً وفاءها به قبل استئناف “الاشتباك التفاوضي”، بينما تهدد بنسف الوساطة المصرية والحوار الوطني باشتراطها المسبق الالتزام بالاتفاقيات التي وقعتها المنظمة.
ويكاد يكون مؤكداً أن المنظمة سترحب ب”قبول” بيريس بمبادرة السلام العربية باعتبارها تطوراً “إيجابياً” مثلما رحبت باستئناف المفاوضات على المسار السوري كمشروع سلام منفرد عربي جديد يسقط من المفاوض الفلسطيني ورقة سياسية عربية قوية ربما لم تبق له أوراق عربية غيرها، دون أن يتوقف هذا المفاوض ليتساءل لماذا كان وزير الحرب الإسرائيلي الحالي إيهود باراك هو أول من أيد علناً مبادرة السلام العربية، قبل بيريس، باعتبارها “أساساً للبحث في سلام إقليمي شامل” وهو نفسه الذي حمله الرئيس محمود عباس علناً في الأردن مؤخراً المسؤولية عن تعثر “عملية أنابوليس”.
وهذه العملية التي تلتزم بها الرئاسة الفلسطينية التزاماً صارماً حد المخاطرة بإفشال الوساطة المصرية وإجهاض الحوار الوطني وبالتالي استمرار الانقسام الفلسطيني، الذي يجردها من الوحدة الوطنية وهي السلاح الأهم في يد أي رئاسة وقيادة في العالم، تجسد على أفضل وجه التناقض القاتل بين برنامجها السياسي وبين المقومات الوطنية لأمن القضية الفلسطينية، لأن مؤتمر أنابوليس أوقف هرم البرنامج السياسي للمنظمة على رأسه “الأمني” بدل قاعدته القائمة على أساس إنهاء الاحتلال وجميع ملحقاته، ولأن عملية أنابوليس مبنية على أساس خريطة الطريق لعام 2003 التي تنص في “المرحلة الأولى” على “التعاون” الأمني الثلاثي الأمريكي الإسرائيلي الفلسطيني، لا “التنسيق” الأمني كما يوصف الآن، وتنص على الإشراف الأمريكي على هذا التعاون الذي أفرزت واشنطن ثلاث جنرالات كبار للإشراف عليه ، كما تنص على تولي الولايات المتحدة إعادة هيكلة “الأمن” الفلسطيني وتنظيمه وتدريبه، وتمول الخزينة الأمريكية وتعهدات المانحين في مؤتمر باريس أواخر العام الماضي وتعهدات المانحين في مؤتمر برلين لدعم “الأمن المدني الفلسطيني” في الشهر السادس الماضي هذه الخطة التي تنفذها سلطة الحكم الذاتي منذ عام 2005 والتي يستهلك تطبيقها الحصة الأهم من ميزانية السلطة.
وعلى صخرة هذا “البناء” الأمني في الضفة الغربية سوف تنهار الوساطة المصرية والحوار الوطني، لأن هذا البناء يقوم على أساس أن حماس والفصائل الوطنية المماثلة هي منظمات “إرهابية”، وجناحها العسكري “خارج على القانون”، والمقاومة إرهاباً، وهذا البناء هو الذي تستند إليه منظمة التحرير وسلطة الحكم الذاتي وحكومتها وبرنامجها السياسي، ولا تستطيع المنظمة هدمه ولا تريد وإلا ستفقد “اعتراف” دولة الاحتلال وراعيها الأمريكي بها لتنهار الأرض من تحت أقدامها، والمفارقة أن هذا البناء هو شرط مسبق لاستمرار “عملية السلام” التي وصلت إلى طريق مسدود لكن طرقها الأمنية “الثلاثية” ما زالت سالكة بل تتسع وتطول. وعندما تسمح قوة تقوم بالاحتلال بتمكين شعب يخضع لاحتلالها من حشد قوات أمنية وتمويلها وتدريبها وتسليحها ثم نشرها لا بد بالتأكيد أن يكون هناك خلل فاضح وخطأ فادح في البرنامج السياسي لهذا الشعب.
ولا يوجد حتى الآن ما يشير إلى أن عملية السلام العاقر يمكن أن تنجب سلاماً في وقت قريب، ليس فقط لأن هناك تغييراً حكومياً وقيادياً مستحقاً في رام الله وتل أبيب وواشنطن، ولا لغياب أي ضمانات بأن تفي القيادات الجديدة للشركاء الثلاثة في العملية بوعودها المعلنة أو الخفية، ولا لعدم وجود مواعيد ملزمة للوفاء بهذه الوعود، وليس فقط لأن التلويح الإسرائيلي بتفعيل المسار السوري ثم المسار الجماعي العربي ينذر بأفق طويل الأمد للحسم على المسار الثنائي الفلسطيني، بل أيضاً لأن الشريك الإسرائيلي القديم الجديد (تسيبي ليفني، إيهود باراك، بنيامين نتنياهو) أما لا يملك أو لا يريد أن يعطي الحد الأدنى الذي يمكنه أن يمنح حداً أدنى من المصداقية للبرنامج السياسي لمنظمة التحرير، ولأن هذا “الشريك” إنما يفاوض شريكه الفلسطيني أما من اجل استمرار عملية التفاوض في حد ذاتها غطاء فلسطينياً للحقائق التي يخلقها على الأرض أو يقبل بتقاسم الضفة الغربية معه.