ألغام في طريق المصالحة الفلسطينية
واضح أن الأمور لم تنضج بعد لإتمام المصالحة الفلسطينية، ناهيك عن أنه من المبكر جداً الحديث عن مشروع وطني فلسطيني.
(1)
قبل اسبوعين نشرت صحيفة “الجريدة” الكويتية حوارا مع فاروق قدومي أمين سر حركة فتح، قال فيه إن الشقاق الحاصل الآن -في جوهره- ليس بين حماس وفتح، ولكنه بين حماس ورئاسة السلطة الفلسطينية. وذلك تعبير دقيق يسلط ضوءا مهما على الاطراف الحقيقيين للأزمة. ومن ثم يدعونا إلى مراجعة توصيف المشكلة وتشخيصها على نحو مغاير، الأمر الذي يستدعي أسئلة مهمة لا تتعلق فقط بأطراف النزاع، وانما تنصب أيضاً على توقيت وملابسات نشوئه وموضوعه الأساسي. وما لم تتوفر إجابة صحيحة على تلك الاسئلة الجوهرية فإننا نخطئ في تشخيص المشكلة، كما نخطئ في علاجها. ومن الواضح أن تلك الإجابات المطلوبة لم تكن حاضرة أو لم توضع في الاعتبار بشكل كاف في ترتيبات اجتماع الفصائل الذي تشهده القاهرة، الأمر الذي بدد التفاؤل الذي عبرت عنه من قبل، وأثار شكوكاً قوية حول احتمالات نجاح المصالحة. وهو ما يبرر التصريح المتشائم الذي عبر عنه نائب الامين العام لحركة الجهاد الاسلامي زياد النخالة، نقله موقع عرب 48 (في 6 الحالي) ودعا فيه الفلسطينيين إلى عدم التفاؤل بالحوار المرتقب، لأن هناك عقبات كثيرة وكبيرة تواجهه. وأشار فيه إلى ان كلا من السلطة وحماس له وجهة نظره الخاصة التي يعتبرها الأصوب والأسلم، الامر الذي يعطل فرصة التلاقي وانجاح الحوار، إضافة إلى أن الاعتقالات السياسية التي تتم من جانب الطرفين والمواقف السياسية المعلنة لا توفر أجواء مواتية للتفاؤل بإمكانية مد الجسور بينهما. وذلك من شأنه أن يهدد نجاح المصالحة، ويفتح الباب لإمكانية تأجيل انطلاق الحوار إلى وقت آخر.
هذه الشكوك ليست آتية من فراغ. ذلك ان هناك ثغرات في الاجراءات أضعفت الأمل في إمكانية إجراء المصالحة المنشودة، وحتى ندرك حقيقة تلك الثغرات فإن الأمر يقتضي أن نرجع قليلاً إلى الوراء، لكي نتتبع جذور المشكلة وخلفياتها.
(2)
كانت نتائج انتخابات المجلس التشريعي التي تمت في 25 يناير/ كانون الثاني 2006 اول مفاجأة استدعت المشكلة بقوة إلى قلب الساحة الفلسطينية، ذلك انها كشفت عن المدى الذي بلغه التغيير في خريطة القوى السياسية، التي لم تكن موازينها معلومة بدقة طيلة العشرين عاماً السابقة، منذ اجتماع المجلس الوطني الفلسطيني بالجزائر سنة ،1988 الذي لم ينعقد منذ ذلك الحين وحتى اللحظة الراهنة. اذ طوال تلك الفترة كانت حركة فتح هي القيادة وهي السلطة. وظل ذلك أمراً مسلماً به حتى أعلنت نتائج أول انتخابات ديمقراطية متضمنة خريطة مختلفة. جاءت عاكسة لموازين القوى التي استجدت خلال العقدين السابقين. صحيح أن الساحة شهدت مطالبات عدة بإعادة النظر في تمثيل الشعب الفلسطيني ومرجعيته، من خلال انتخابات مجلس وطني جديد يستوعب المتغيرات التي ظهرت في ساحة العمل الوطني منذ عام ،1988 وكان ذلك موضع اتفاق كل الفصائل التي اجتمعت في القاهرة وأصدرت في هذا الصدد بيانها الشهير في مارس/ آذار ،2005 إلا أن رئاسة السلطة حالت دون انجاز هذه الخطوة. وفيما أعلم فإن العناصر الوطنية المستقلة تقدمت بأكثر من طلب مكتوب إلى رئاسة السلطة لدعوة اللجنة التحضيرية التي شكلت لهذا الغرض للاجتماع، ولكن هذه الطلبات تم تجاهلها، على نحو بدا واضحاً فيه ان السلطة حريصة على أن تبقي الوضع كما هو عليه دون تغيير.
التغيير فرضته الانتخابات التشريعية مع بداية عام ،2006 ذلك أنه حين جرى التنافس بين الفصائل التي شاركت في الانتخابات على 132 مقعدا للمجلس كانت النتائج كالتالي: حماس 77 مقعدا – فتح 45 مقعدا- المستقلون 4 مقاعد (3 منها شغلها مرشحون دعمتهم حماس) – 3 مقاعد للجبهة الشعبية (قائمة أبو علي مصطفى) – مقعدان لكل من قائمة البديل والطريق الثالث والمبادرة الوطنية.
هذه النتيجة منحت الأغلبية في المجلس التشريعي لحركة حماس. وجعلت فتح باختلاف تياراتها واطيافها تتراجع عن موقعها التاريخي في المركز الأول لتحتل المركز الثاني. في الوقت ذاته فإن النتائج أعلنت عن أن الحركتين الكبيرتين حصلتا على 98% من أصوات الناخبين، في حين لم تحصل بقية الفصائل المشاركة على اكثر من 2% من الاصوات.
من الأمور الجديرة بالذكر في السياق الذي نحن بصدده ان خمسة فصائل لم تشارك في الانتخابات أصلاً هي: الصاعقة – ألوية الناصر صلاح الدين- الجهاد الاسلامي- جبهة النضال الشعبي – الحزب الشيوعي. أما كل من جبهة التحرير الفلسطينية وتنظيم فدا وجبهة التحرير العربية فقد شاركت ولم تفز اي منها بأي مقعد.
الانتخابات استدعت إلى الواجهة حقيقتين مهمتين. الأولى أن فرزاً جديداً تم وتحددت بموجبه الأوزان النسبية لمختلف الفصائل، التي تبين أن بعضها له حضوره المتواضع للغاية في الشارع الفلسطيني، وان البعض الآخر لا حضور يذكر له، في حين أن القوتين الأساسيتين هما حماس وفتح. الحقيقة الثانية ان تصويت الأغلبية لصالح حماس لم يكن بالضرورة تعبيراً عن الانحياز إلى موقفها الفكري، ولكنه كان بالأساس تصويتا لصالح موقفها المقاوم للاحتلال “الإسرائيلي”.
(3)
منذ اللحظات الاولى لظهور نتائج الانتخابات، ظهرت بوادر الأزمة بين رئاسة السلطة وبين حركة حماس على النحو الذي يعرفه الجميع. ذلك ان السلطة التي اتخذت من فتح عنواناً لها، رفضت في حقيقة الامر الاعتراف بالنتائج، ورغم أن حصول حماس على أغلبية مقاعد التشريعي اقتضى قيامها بتشكيل الحكومة، إلا أن هذه العملية واجهت صعوبات جمة من البداية، تراوحت بين مقاطعة السلطة لها، وبين سحب صلاحيات الحكومة، الأمر الذي جرت محاولة احتوائه وقتذاك بوثيقة الوفاق الوطني ثم باتفاق مكة، وأدى لاحقاً إلى تشكيل حكومة الجبهة الوطنية. لكن ذلك لم ينه الانقسام. وإنما ظلت علاقات الطرفين مسكونة بالتوتر، الذي رفع من وتيرته الفلتان الأمني في قطاع غزة الذي كان لأجهزة السلطة دورها فيه، الأمر الذي استدعى حسما من جانب الحكومة المنتخبة لمعالجة موقف تلك الاجهزة. وهو ما انتهي بإعلان القطيعة بين غزة ورام الله. وتوالت تداعيات الموقف سلباً بعد ذلك بما اوصل الامور إلى ما وصلت إليه الآن.
ما الذي يعنيه ذلك كله الآن؟- ازعم انه يعني عدة أمور مهمة في مقدمتها ما يلي:
إن رئاسة السلطة طرف أساسي في النزاع كما عبر عن ذلك بحق فاروق قدومي، وليست طرفاً محايداً فيه. بالتالي فإن المصالحة الحقيقية ينبغي أن تتم بين رئاسة السلطة وقيادة حركة حماس. وبغير ذلك فإن فرصة انهاء الانقسام ستكون منعدمة، مهما كان عدد الفصائل الأخرى التي توافقت على مشروع المصالحة.
إنه لا بديل عن تفاهم حول كافة الملفات العالقة بين الفصيلين الكبيرين الممثلين في المجلس التشريعي، حماس وفتح.
إن احترام مختلف الفصائل الفلسطينية أمر مفروغ منه، لكن احترام اختيار الشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع ضروري أيضاً. لذلك فإن رأي الذين صوت لهم الناس بنسبة 2% لا يمكن ان يحتج به في مواجهة الذي ايدهم 98% من الناخبين.
انه من الناحية الموضوعية والسياسية فإن الأوزان النسبية للفصائل يجب أن تكون محل اعتبار، بحيث يصبح من غير المنطقي أو المقبول أن تتساوى الفصائل التي فشلت في أن تحصل على أي تأييد شعبي، أو تلك التي لم تستطع ان تحصل إلا على مقعد أو اثنين أو حتى ثلاثة مع فصيل آخر حصل علي 77 مقعداً أو 45 مقعداً. أعني ان أصوات الفصائل يجب ان تحتسب تبعا لأوزانها في الشارع الفلسطيني، حتى تكون القرارات التي تتخذ في ضوئها تعبيراً صادقاً عن نبض ذلك الشارع ومشاعره الحقيقية.
إن وصف ما بين السلطة وجناح فتح فيها وبين حماس بأنه خلاف حزبي أو تنظيمي، وإن بدا كذلك في ظاهره هو تشخيص غير دقيق ومغلوط. لأنه في جوهره خلاف حول النهج السياسي والموقف من المقاومة بوجه أخص. فالسلطة لا ترى غير التسوية السياسية بديلاً، في حين أن حماس ومؤيديها مع المقاومة وضد الاستمرار في المفاوضات بلا نهاية. وهو موقف انحازت إليه مؤخراً شخصيات فلسطينية عديدة، بعضها من داخل فتح ذاتها وبعضها من المستقلين والمثقفين البارزين. وهؤلاء شكلوا فريقا للدراسة الاستراتيجية أشرفت عليه مجموعة اكسفورد للابحاث في لندن. وهم الذين دعوا ابو مازن في اغسطس/ آب الماضي إلى وقف المفاوضات وانهاء خيار الدولتين.
(4)
الورقة المصرية التي قدمت للفصائل احتاجت إلى تنقيح ومراجعة، لأنها بمثابة مشروع للمصالحة، ولا يمكن اعتباره مشروعاً وطنياً كما قيل لأسباب كثيرة، منها مثلا أنه لا يمكن اعتبار التهدئة من ركائز المشروع الوطني، وإنما هي إجراء مؤقت لمواجهة ظرف مؤقت. كما ان المشروع الوطني لا يمكن أن يغفل حق عودة الفلسطينيين المشردين في الشتات. فضلاً عن أنه يتعذر الجمع في بلد محتل بين الاعتراف بالمقاومة كحق مشروع وبين اشتراط التوافق الوطني حول ممارسة ذلك الحق، ثم اعتبار الأجهزة الأمنية وحدها المخوله بمهمة الدفاع عن الوطن والمواطنين. خصوصاً اننا نشاهد بأعيننا تلك الأجهزة كل يوم عاجزة عن الدفاع حتى ضد المستوطنين وليس ضد تغولات واجتياحات الجيش “الإسرائيلي”.
هذا قليل من كثير أكد الحاجة إلى اعادة النظر في الورقة، لتكون معبرة عن نقاط الالتقاء بين القوى الوطنية الفلسطينية، ولا تعبر فقط عن وجهة نظر فصيل بذاته.
والتحفظات الأخرى التي أبداها على الورقة عبد القادر ياسين -السياسي الفلسطيني البارز- فيما نشرته صحيفة الأسبوع المصرية (في 1/11) نموذج لمآخذ المستقلين على مضمون الورقة، التي ينبغي ان تعالج في الصياغة النهائية لها.
الملاحظة الأخيرة الأخرى الجديرة بالنظر في الموضوع أن صحيفة “يديعوت احرنوت” -أوسع الصحف “الإسرائيلية” انتشاراً- نقلت في عددها الصادر في 5/11 عن وزيرة الخارجية تسيبي ليفني قولها إنه في حالة أسفرت حوارات الفصائل عن اتفاق ينهي الخلاف بين فتح وحماس، فإن “إسرائيل” ستوقف المفاوضات مع السلطة، إلا إذا تضمن الاتفاق قبول حماس لشروط الرباعية (التي تتضمن وقف المقاومة والاعتراف ب”إسرائيل”)، الأمر الذي يثير علامات استفهام كثيرة حول مآلات الحوار ومستقبله.