إملاءات رايس على المعتدلين
السيدة كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية الامريكية باتت تقيم في المنطقة العربية وعواصمها اكثر من اقامتها في منزلها في واشنطن، فلا يمر شهر دون ان تحط الرحال في المنطقة، تارة لمتابعة تطورات المفاوضات الفلسطينية ـ الاسرائيلية التي أطلقتها في مؤتمر انابوليس للسلام، وتارة اخرى للالتقاء بوزراء خارجية محور الاعتدال لبحث استعدادات الحرب ضد ايران، وتارة ثالثة لترؤس مؤتمر دول الجوار العراقي.
ويبدو ان المنطقة العربية باتت الشغل الشاغل للسياسة الخارجية الامريكية وآلياتها الدبلوماسية، ومع ذلك، لا نرى غير الفشل الذريع في هذا الخصوص، فالاوضاع في العراق تسير من سيئ الى اسوأ، والمفاوضات الفلسطينية ـ الاسرائيلية فشلت في منع اقامة وحدة سكنية يهودية واحدة في مستوطنات القدس المحتلة، واعداد قتلي حلف الناتو في تصاعد مستمر في افغانستان، وكان آخرهم ابن وزير الدفاع الهولندي.
وزيرة الخارجية الامريكية اجتمعت امس بوزراء خارجية دول محور الاعتدال في المنامة، اي دول الخليج الست علاوة على مصر والاردن، قبل ان تطير كالنحلة الى الكويت لحضور اجتماعات وزراء خارجية دول الجوار العراقي، اي تركيا وايران ومصر علاوة على المملكة العربية السعودية والكويت والاردن.
في الاجتماع الاول، طلبت السيدة رايس من وزراء خارجية محور المعتدلين ثلاثة امور محددة: الاول شطب ديون العراق، والثاني اعادة فتح السفارات وارسال السفراء العرب الى بغداد لدعم حكومة السيد نوري المالكي، اما الثالث فهو التصدي للنفوذ الايراني المتسارع في العراق.
ولا نعرف طبيعة ردود وزراء الخارجية العرب على هذه الاملاءات الامريكية التي تتسم بالغباء والجهل والصلافة معا، بالاضافة الى كونها غير واقعية، وصعبة التحقق لاسباب عراقية بالدرجة الاولى.
فكيف تطلب السيدة رايس من الدول العربية اعادة فتح السفارات وارسال السفراء وهي نفسها كوزيرة خارجية تواجه صعوبات كبيرة في هذا الصدد، حيث يرفض الدبلوماسيون الامريكيون الخدمة في العراق وسفارة بلادهم هناك لان البلد غير آمن؟
والتجارب العربية مرعبة في هذا الصدد، فقد تعرضت سفارة الاردن في العاصمة العراقية للتفجير بسيارة ملغومة عام 2003 مما ادى الى تدميرها بالكامل ومقتل 17 شخصا من العاملين فيها، وجرى اغتيال السفير المصري عام 2005، وخطف القائم بالاعمال الاماراتي بعدها بعام، مضافا الى ذلك مقتل دبلوماسي جزائري وآخر بحريني.
السيد هوشيار زيباري قال ان هناك 45 بعثة دبلوماسية اجنبية موجودة حاليا في بغداد، واعترف انها تعمل في ظروف صعبة، ولكن ما لم يقله السيد زيباري ان المنطقة الخضراء باتت مزدحمة بهؤلاء والمؤسسات الحكومية العراقية اللاجئة اليها طلبا للأمان، ولم يعد هناك موضع قدم لأي وافد جديد.
وحتى المنطقة الخضراء هذه لم تعد آمنة، وتعرضت قبل اسبوع لقصف مكثف بالصواريخ ومدافع الهاون مما ادى الى مقتل عشرة امريكيين على الاقل، ومن المتوقع ان يتواصل هذا القصف في ظل تهديدات التيار الصدري بـ حرب مفتوحة ضد قوات الاحتلال الامريكي والحكومة العراقية المتعاونة معه.
ولعل طلب السيدة رايس من مضيفيها العرب بالتصدي للنفوذ الايراني في العراق ودعم حكومة المالكي في هذا الصدد، هو اكثر طلباتها استفزازا ووقاحة، فالادارة الامريكية الحالية هي التي تتحمل مسؤولية تسليم العراق على طبق من بلاتين الى ايران ورجالاتها، ووضعهم في سدة الحكم، ودون ان تتشاور مع اي من حلفائها العرب في هذا الصدد.
ان يتمدد النفوذ الايراني في العراق ويتصاعد فهذا امر متوقع، لان مهندسي الحرب الامريكية في العراق مهدوا له الطريق بحل الجيش العراقي، وتفكيك مؤسسات الدولة العراقية، وتجريم حزب البعث، وتعيين حلفاء ايران وميليشياتها حكاما جددا، وتزويدهم بالمال والسلاح والدعم السياسي والمعنوي، ثم يأتون الآن ويطالبون العرب باصلاح ما افسدوه، ومساندة حكومة المالكي الطائفية الحاقدة التي لا تخفي كراهيتها للعرب وارتماءها بالكامل في احضان الحكومة الايرانية.
اما اذا انتقلنا الى الطلب الامريكي الثالث وهو شطب ديون العراق لدى الدول الخليجية، فان هذه الدول محقة في رفضه، لان العراق الجديد بات اكثر الدول فسادا على وجه الخليقة، وحكامه واتباعهم سرقوا حتى الآن اكثر من 84 مليار دولار حسب تقديرات منظمة الشفافية الدولية من ثروات الشعب العراقي المنكوب، وهو رقم يبلغ ضعف ديون العراق لدول الخليج.
الشركات الامريكية، والأمنية منها على وجه الخصوص، شاركت بشكل جشع في نهب الاموال العراقية، وقتل العراقيين، دون ان تحقق الامن والامان لهؤلاء. واذا نجحت الضغوط الامريكية في تمرير قانون النفط الجديد في البرلمان بمساعدة حكومة المالكي وحلفائها، فان هذا يعني رهن ثروات البلاد النفطية لاكثر من ثلاثين عاما مقبلة.
المنطق يقول بعدم تجاوب دول محور الاعتدال مع اي من هذه الاملاءات الامريكية، ليس فقط لان ستة اشهر بقيت من عمر الادارة الحالية، وانما ايضا لان هذه الادارة هي التي اوصلت العراق الى هذا الوضع المأساوي وعليها اصلاح ما كسرته وتحمل المسؤولية الكاملة المترتبة على جرائمها هذه التي ادت حتي الآن الى مقتل مليون ونصف المليون عراقي، واغرقت البلاد في حروب طائفية ومذهبية مدمرة.
ولكن متى كانت الحكومات العربية تستخدم المنطق كاساس لسياساتها، او تعاملها، مع الادارة الامريكية، فلم يكن من المنطق مساندة الحصار على العراق لاكثر من ثلاثة عشر عاما بعد اخراج قواته من الكويت، ومطالبته بتدمير اسلحة دمار شامل لم تكن موجودة في حوزته، ثم فتح اراضيها واجوائها لشن حرب عليه، ومن ثم احتلاله، وتغيير نظامه، واحداث اكبر خلل استراتيجي في المنطقة لمصلحة ايران واسرائيل معا، وتحول العرب الى مجرد بنك لتمويل الحروب الامريكية في المنطقة، والحيلولة دون انهيار الاقتصاد الامريكي بالكامل بسبب تكاليفها العالية؟
السيدة رايس ستحصل قطعا على معظم طلباتها من وزراء خارجية دول محور الاعتدال بالجملة او بالتقسيط، فلم يحدث ان رفض لها هؤلاء طلبا في السابق، ولماذا يخرجون عن هذه السنّة الحميدة الآن؟ ولم يكن مفاجئا بالنسبة الينا ان يكون اول طلب سيلبيه وزراء خارجية دول الخليج هو قبول العراق عضوا في مجلس التعاون الخليجي فورا، ومشاركة السيد زيباري في جميع اجتماعاته الوزارية المقبلة، بعد عناق حار بينه والأمير سعود الفيصل وزير الخارجية السعودي، ايذانا ببدء العهد الجديد. اما اليمن فعليه الانتظار لعقود قادمة حتى يحظى بهذا الشرف، فرغم خدماته الكثيرة في الحرب على الارهاب، فانه ما زال غير مؤهل امريكيا وخليجيا للانضمام الى هذا النادي.