التجنيد لجهاز التجسس البريطاني يخرج إلى العلن
المجد-
في صباح أحد الأيام في عام 1983 عندما كنت في سنتي الأخيرة في الجامعة، تلقيت بطاقة بريدية من أستاذ كان يدرس تاريخ العصور الوسطى. سألني الأستاذ في البطاقة: هل ترغب في أن نتقابل لمناقشة فرصة عمل شيقة؟
فاجأني الأمر نوعاً ما، إذ لم يسبق لي أن قابلت هذا الأستاذ، ولم أكن أدرس تاريخ العصور الوسطى. ولكننا كنا في أوائل ثمانينيات القرن الماضي حين كانت البطالة متفشية، كان يتعين أن يتشبث المرء بأية فرصة عمل بكلتا يديه.
وعلى مائدة الغداء في مطعم صيني، طرح علي السؤال فجأة: هل ترغب في تقديم طلب للعمل مع جهاز إم آي 16 MI6 ؟
طبعاً، غمغمت؟ ونحن نتناول الطعام والنبيذ المصنوع من الأرز. وهكذا بدأ المشوار. سافرت إلى لندن. ووقعت على قانون الأسرار الرسمية، وأجبت على الكثير من الأسئلة التي تتعلق بأمور مثل تاريخ عائلتي. ولكن شيئاً فيّ أشعرهم أنني لست الشخص الذين يبحثون عنه.
وبعد نحو 30 عاماً ، تغيرت أساليب التجنيد التي يتبعها جهاز إم آي 16 MI6 . أصبح نظام التجنيد لديهم هذه الأيام أكثر انفتاحاً وديمقراطية، إذ يوجد لدى خدمة الاستخبارات السرية- وهو الاسم الرسمي لجهاز MI6 – موقع إلكتروني حافل بالمعلومات، يستطيع أي شخص من خلاله أن يتقدم بطلب للالتحاق بها. كما أطلقت هذه الخدمة في الآونة الأخيرة حملة إعلانية لتشجيع الناس على تقديم طلبات الانضمام إليها. إن هذا الانفتاح له هدف: ذلك أن جهاز إم آي 16 MI6 ، يريد أن يجذب أكبر عدد ممكن من المتقدمين للعمل في صفوفه، لأن قلة قليلة من الأشخاص الكثيرين الذي يتقدمون بطلبات الانضمام إليه، لديهم الصفات المطلوبة.
ولتكوين فكرة أفضل عن كيفية تعاقد جهاز إم آي 16 MI6 مع منسوبيه- وعن نوعية الحياة في هذا الجهاز، قابلت رئيس قسم التجنيد فيه. في غرفة واسعة داخل مكتب الشؤون الخارجية والكومونولث، وهو الإدارة التي تحدد لجهاز إم آي 16 MI6 مهامه، تم تقديمي لرجل طويل القامة وحسن المعشر في أواخر الأربعينيات من عمره (على ما أعتقد).
اسمي جون، قال لي.
سألته هل هذا هو اسمك الحقيقي؟
أجاب بنبرة تخلو من التعبير: لا إنه مجرد اسم أستخدمه.
في الساعة التالية، لم أكتشف شيئاً ذا قيمة عنه. فقد أمضى معظم حياته الوظيفية في عمليات في منطقة الشرق الأوسط. وعمل رئيساً لقسم التجنيد في جهاز إم آي 16 MI6 لمدة عام . وهذا كل شيء.
وكما يعرف الجميع، تجمع خدمة الاستخبارات السرية المعلومات الاستخبارية لبريطانيا عن البلدان الأجنبية. وعلى غرار جهاز إم آي 6 MI5 الذي يدير العمليات الاستخبارية داخل المملكة المتحدة، فقد نمت هذه الخدمة بشكل كبير في أعقاب هجمات 11 أيلول/سبتمبر 2001 الإرهابية، على مدينتي نيويورك وواشنطن، وفي أعقاب التفجيرات التي وقعت في مدينة لندن في 7 تموز/ يوليو 2005.
رفض جون إعطائي أية تفاصيل عن حجم هذا الجهاز الذي يوجد مقره في فوكسهول جنوب لندن. ولكنه يقول: إننا في سبيلنا لتحقيق أهداف النمو التي حددتها لنا الحكومة في بضع السنوات المقبلة.
ما الأعمال التي يقوم بها كبار المهنيين في هذا الجهاز؟
الجزء المهم هو العمل الذي يقوم به "ضباط العمليات"، وبخاصة "ضباط الحالات" الذين يضعون الخطط ويقومون بعمليات استخبارية سرية في الخارج.
وتتمثل مهمتهم الرئيسية في تجنيد وإدارة العملاء ومصادر المعلومات في سائر أنحاء العالم. ويقوم هؤلاء الضباط بهذا العمل في الخارج لمدة تقارب ثلث حياتهم الوظيفية.
يقول جون: من خلال عملهم في الخارج، يتعرفون على أبناء البلد الذين لديهم صلة بالشخصيات ذات النفوذ، أو الذين يستطيعون الوصول إلى المعلومات التي تهم حكومة صاحبة الجلالة. والمهارة هنا أن تجعل معارفك يخبرونك بأمور لا ينبغي حقيقة أن يطلعوك عليها.
ما الصفات التي ينبغي أن تتوافر في مقدم طلب الانضمام إلى الجهاز؟ يقوم جون بتعداد الصفات التي يبحث عنها أي صاحب عمل: القدرات الفكرة الجيدة، الأشخاص في نسبة الـ 40 في المائة الأعلى في شريحتهم العمرية في الجامعة، الأشخاص الذين لديهم وعي بالشأن السياسي واهتمام قوي بالشؤون الدولية". ويميل الأشخاص الذين ينضمون إلى هذا الجهاز لأن يكونوا" ذوي قدرة جيدة على التواصل، وقادرين على تكوين علاقات مع الناس.
وفي اعتقادي أن هذه النقطة الأخيرة بالغة الأهمية. ذلك أن إقناع الأفراد الذي يعيشون في دول بوليسية بتسليم معلومات سرية، يتطلب قدرات كبيرة على الإقناع.
ومن الشائعات الدائرة هذه الأيام أن جهاز إم آي 16 MI6 يرغب في تجنيد الأشخاص الذين فقدوا وظائفهم في حي المال. ويقول جون إنه يحرص بالتأكيد على تجنيد أناس من "سكوير مايل". انضم إلينا عدد لا بأس به ممن فقدوا وظائفهم في حي المال، وهم من النوعية الممتازة ولديهم مهارات قوية صقلها عملهم في قطاع الخدمات المالية.
غير أنه يصر على أنه يجب على الجهاز أن يكون متأكداً من أنهم يستطيعون التغلب على مشكلة خفض المرتبات، التي يمكن أن تنتقل عدواها إلى القطاع العام. ويقول في هذا الصدد: إنني أمضي قدراً كبيراً من الوقت في التأكد من أن المستجدين لا يأتون إلينا، ولديهم التزامات مالية شخصية ضخمة، لأن وجود هذه الالتزامات يمكن أن يشكل خطراً كبيراً على الأمن.
طرحت عدداً من الأسئلة التي يمكن أن يطرحها طالب جامعي لم يتخرج بعد . هل العمل خطر في الميدان؟ أجاب قائلاً: يمكن أن يتم إرسالك إلى أجزاء من العالم تعيش أوضاعاً غير مستقرة، وهناك خطر مباشر عليك. ولكننا مصممون على حماية رفاه الضباط، لأن الأمر كله يتعلق بتخفيف الخطر.
هل تستطيع القيام بهذا العمل وتعيش حياة أسرية؟ يجيب: نعم. إن كثيراً من ضباط العمليات الذين يعملون في الخارج يصطحبون عائلاتهم معهم.
هل تستطيع أن تخبر زوجتك ووالديك بالعمل الذي تقوم به؟ يجيب: إننا نوصي العاملين لدينا بأن يخبروا أقل عدد من الأقارب والأصدقاء بوظيفتهم. ولا يوجد حظر على ذلك. إنني أعرف عضواً في الجهاز يخبر ابنه الذي يبلغ من العمر ست سنوات بعمله. ولكن ينبغي، على العاملين في جهاز الخدمات الاستخبارية السرية، أن يفكروا بعناية لأن عملهم يمكن أن يشكل ضغطاً على أقربائهم. والأفضل أن تقول إنك موظف خدمة مدنية.
وإذا قررت بعد بضع سنوات أنك لا تحب هذا العمل وتريد تركه، هل تستطيع أن تفعل ذلك؟ إنك تستطيع ذلك بالتأكيد. ولكن معدل البقاء على رأس العمل لدينا عال جداً. إذ إن نحو 97.5 في المائة من الأشخاص الذين ينضمون إلينا، يظلون على رأس عملهم طيلة حياتهم العملية. وهذا يعكس الرضا العالي جداً عن الوظيفة.
أستأذن من جون من دون أن تزيد معرفتي عنه لدى المغادرة، إلا قليلاً على ما كنت أعرفه عنه عند وصولي لمقر عمله. ولكنني توقفت عند الباب: سؤال أخير. هل يؤثر هذا العمل الشبيه بعمل جيمس بوند على أعصابك؟
يبتسم جون ويقول: إننا لا نتحدث عن المشروبات الروحية. إننا نقوم بعمل جاد وخطير، وينبغي أن نحتفظ بسجلات دقيقة. ولكن نعم، من المؤكد أن عنصر الإثارة موجود.