خيوطها بدأت مع عملية اغتيال الشهيد عاطف بسيسو
المجد-
لم يحمل حديث عوزي أراد، المسؤول السابق في جهاز المخابرات الصهيونية (الموساد) أي جديد عندما كشف أن هذا الجهاز تمكن من التجسس على الرئيس محمود عباس (أبو مازن) عام 1993، بزرع جهازي تنصت في مصباح مكتب وكرسي أبو مازن.
عدنان ياسين
في العام 2005 كان أراد يتحدث في جامعة حيفا، بمناسبة مرور 60 عاماً على انتهاء الحرب العالمية الثانية، ورغم انه لا علاقة مباشرة بين المناسبة وأبو مازن، إلا أن المحاضر أكد ما هو معروفا على نطاق واسع بان الموساد جند الفلسطيني عدنان ياسين للتجسس على أبي مازن.
وربما يطرح سؤال حول مغزى هذا الاعتراف المتأخر من الموساد وان كان غير رسميا، بذلك الملف وقصة الجاسوس التي لم يخفها أبو مازن نفسه، وقدم رواية لها، في مقال نشرته مجلة الدراسات الفلسطينية المرموقة قبل سنوات.
ورغم أن الرئيس أبا مازن حاول ان يقلل من تأثير عملية التجسس، بالإشارة إلى قصر مدتها، وعدم أهمية عدنان ياسين الوظيفية والسياسية، إلا انه اقر بمعرفته بياسين، ومحاولته مساعدته من اجل معالجة زوجة ياسين المريضة.
وبخلاف ما كتبه أبو مازن، في مقاله الصحافي عن الموضوع، فانه لا توجد أية رواية رسمية عن قضية التجسس التي عادت لعناوين الصحف بعد إقرار رجل الموساد السابق بها.
خيوط تقود للجاسوس
ويمكن الإشارة إلى ان بداية تكشف خيوط قصة التجسس بدأت مع عملية اغتيال مروعة ذهب ضحيتها الشهيد عاطف بسيسو، الذي يعتقد بأنه واحدٌ من ثلاثة حلّوا محل صلاح خلف (أبو إياد)، الذي اغتيل في تونس، عشية حرب الخليج الثانية، في قيادة الجهاز الأمني التابع لمنظمة فتح.
وتولى بسيسو، مسؤولية العلاقات مع أجهزة الاستخبارات الأوربية ومن بينها الفرنسية ومتابعة شبكات من المتعاونين في العواصم المختلفة وأيضاً أنيطت به مسؤولية تأمين أمن مسئولي منظمة التحرير.
وفي يوم 8 حزيران (يونيو) 1992، كان عاطف بسيسو الذي وصل فجأة للعاصمة الفرنسية باريس للالتقاء مع مسؤولين من المخابرات الفرنسية، عائداً مع صديقين لبنانيين إلى فندق المريديان مونفرانس في شارع كومندينت موشوط، في العاصمة باريس، عندما اقترب منه رجلان وأطلقا النار عليه من مسدسات مزوّدة بكواتم للصوت وجمعا فوارغ الرصاصات وغابا عن الأنظار.
ويعتبر هذا الفندق فألاً سيئاً على الشخصيات العربية المهدّدة بالاغتيال، ففي 13/6/1980، تم اغتيال الدكتور يحيى المشد في إحدى غرف الفندق، والمشد كما هو معروف كان مسئولا في المشروع الذري العراقي.
ويمكن القول إن اغتيال بسيسو شكّل، على الأقل مفاجأة، إن لم نقل صدمة لرفاقه، فالرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات والقيادة الفلسطينية كانت تخوض مفاوضات مع العدو الصهيوني ضمن الترتيبات التي أفرزتها حرب الخليج الثانية ومؤتمر مدريد، وفتح صفحة جديدة في العلاقات بين الفلسطينيين والعدو الصهيوني.
وأمام أصابع الاتهام التي وجهت للعدو الصهيوني ، نفى اللواء أوري ساغي رئيس شعبة الاستخبارات الصهيونية، أية علاقة لبلاده في الحادث، ولكنه أشار إلى أن بسيسو مسؤولٌ عن قتل الرياضيين الصهاينة في ميونخ وعن المحاولات الفاشلة لضرب طائرة العال في روما عام 1978.
وقيل كثير عن ملابسات اغتيال بسيسو وعن طبيعة الرسالة التي حاولت دولة العدو الصهيوني توصيلها والجهة المستهدفة بذلك.
صورة للموساد
ومثلما يحدث في مرات كثيرة، غابت قضية عاطف بسيسو، عن اهتمامات الرأي العام الفلسطيني، ولكن هناك من كان حادث الاغتيال يعنيه بصورة مباشرة مثل زوجته ديما، ومحاميها فرانسوا جيبو، والقاضي جان لوي بروغيير، الذي كلّف بالتحقيق في ملف اغتيال عاطف بسيسو في قلب العاصمة الفرنسية، ومعرفة الجهة التي تقف وراء حادث الاغتيال.
وبعد مرور سبع سنوات، وفي شهر آذار (مارس) 1999م قدّم القاضي الفرنسي تقريره عن الحادث واتهم فيه الموساد الصهيوني بالوقوف وراء قتل بسيسو، وأنه استعان بذلك بالجاسوس عدنان ياسين لتنفيذ عملية اغتيال بسيسو.
وفتح ذلك من جديد ملف عدنان ياسين الذي أصبح أشهر جاسوس يتم اكتشافه كان يعمل في منظمة التحرير عقب انتقالها من بيروت إلى تونس، وكان مسؤولاً عن ترتيبات السفر في المنظمة.
وقال عدد من الكوادر الفلسطينية التي عرفت عدنان ياسين لمراسلنا انه كان يطلب من الواحد منهم ثلاث صور لانجاز معاملات الإقامة لهم في تونس وعندما يسال الواحد منهم لماذا ثلاث صور كان عدنان ياسين يجيب مازحا:
*صورة للتونسيين، وأخرى للملف، وثالثة للموساد..!
وبحكم علاقاته كان عدنان ياسين يدخل إلى مكاتب كبار المسئولين بسهولة ويسر، وبفضل تعاونه مع دولة العدو الصهيوني كانت المخابرات الصهيونية على علم بكثير مما يدور في المكاتب الفلسطينية، وخلال جولات المفاوضات الفلسطينية – الصهيونية التي سبقت توقيع اتفاق أوسلو، كان المفاوضون الفلسطينيون يصابون بالذهول عندما يدركون بأن الطرف الآخر لديه معلومات كافية عما سيطرحونه وما سيناورن عليه وخطط التفاوض التي عادة ما كانت توضع في مكتب محمود عباس (أبو مازن).
وأثار نشر تقرير القاضي الفرنسي، سجالات بين العدو الصهيوني والفرنسيين، مع غياب عربي وفلسطيني واضح.
ولم يفكر احد حتى بالإشادة بجهد القاضي بروغير، ومهنيته، فهذا الرجل أخذ المسألة، كما أتضح بشكلٍ جدي.، وليس كما كانت تفعل الأجهزة المشابهة في الدول الغربية الأخرى عندما يتعلق الأمر بالإرهاب الصهيوني على أراضيها.
علم بورغيير بأن ثلاثة أشخاص فقط علموا بنية عاطف بسيسو التوجه إلى فرنسا، ضيفاً على جهاز المخابرات الفرنسية أل (دي.أس.تيه)، وهؤلاء هم: زوجته ديما، وأحد المسؤولين في المنظمة وعدنان ياسين، وبعد التحقيق، اشتبه القاضي الفرنسي بعدنان ياسين بأنه وفّر المعلومات عن تحرّكات بسيسو للموساد.
وتوجّه القاضي إلى منظمة التحرير الفلسطينية، في مطلع عام 1993، مطالباً بتفاصيل المكالمات التي كان يجريها عدنان ياسين، من مقر المنظمة في تونس في اليوم الذي سبق حادث الاغتيال، وحسب مصادر فلسطينية فإن المنظمة لم تستجب، ولكن هذا القاضي، وجد طريقة للوصول إلى هدفه، ويعتقد أن المخابرات الفرنسية ساعدته بوضع يده على المكالمات التي كان يتركها عدنان ياسين في (آنسر مشين) الهواتف التي يتحدّث إليها في فرنسا وإيطاليا، وبعد تحليل هذه الرسائل تأكّد الفرنسيون من علاقة عدنان ياسين بالموساد.
وهنا لا بدّ من التساؤل لماذا لم تتعاون منظمة التحرير مع القاضي الفرنسي؟ ولماذا تم الصمت على عدنان ياسين نحو عشرة أشهر، حيث تم اعتقاله في 25/10/1993، مع أنه كان من الواضح ومن الطلب الفرنسي الرسمي بالإطلاع على مكالمات ياسين بأن هناك على الأقل شيئاً ما ضد الرجل من مخابرات قوية و(صديقة) هي المخابرات الفرنسية وفي قضية تتعلق في النهاية بأحد قادة الأمن الفلسطيني: عاطف بسيسو.
وتكرّر موقف منظمة التحرير السلبي فيما بعد عندما طلب القاضي الفرنسي الاستماع إلى إفادة عدنان ياسين الذي أعلن أنه معتقل في أحد السجون التونسية، وجاء الرد الفلسطيني، بأن ياسين اختفى في العام 1996، بعد انتقال منظمة التحرير من تونس إلى غزة.
جاسوس مهم
أسئلة كثيرة خلفها التحقيق الفرنسي في قضية اغتيال عاطف بسيسو، وعلاقة عدنان ياسين بها وبغيرها من قضايا.
ووفقا لمصادر متطابقة، فإن ياسين الذي كان يتولى مسؤوليات استصدار أذونات السفر لكوادر المنظمة في تونس، كان يعالج زوجته المريضة في فرنسا، على حساب المنظمة، وأنه كان يسافر كثيراً هناك لهذه الغاية، ورغم أن مصادر فلسطينية قالت إنه لم يعانِ من مشاكل مادية لعلاج زوجته، من بينها أبو مازن نفسه، فإن مصادر أخرى أفادت أن المخابرات الصهيونية استطاعت النفاذ إليه من هذا الباب.
وتردد إن أول لقاء تم بين ياسين وممثل عن الموساد كان في شهر آذار (مارس) 1989، في باحة نفس الفندق الذي قتِل على أعتابه بعد ذلك التاريخ بأكثر من ثلاث سنوات عاطف بسيسو.
وقيل إن عدنان ياسين تجنّد على يد ضابط الموساد المدعو (حلمي) الذي (التقط) عدنان ياسين في ذلك الفندق، وعرض عليه الدخول في مشاريع تجارية مشتركة، وفيما بعد تولى الضابط (جورج) العلاقة مع ياسين.
وكان وقوع ياسين في الفخ، نصراً مهماً للموساد، لأن ياسين بحكم علاقاته و تدخّلاته جعل قيادة المنظمة مكشوفة للجانب الآخر.
ومما تم الكشف عنه، مثلاً، باعتراف أبو مازن وأخيرا رجل الموساد السابق، أن عدنان ياسين الذي زوّده الموساد بأجهزة تجسّس حديثة جداً، حصل من الموساد على مصباح فاخر للقراءة، وعلى كرسي طبي متطوّر وجهاز فاكس صغير الحجم، وتم وضع أجهزة تنصت في هذه الأجهزة، وتشتغل هذه الأجهزة بمجرد الجلوس على الكرسي، بفضل جهاز حساس للحرارة وضع في الكرسي، وتستطيع هذه الأجهزة العمل ثماني ساعات دون تغيير البطارية.
وشحن ياسين هذه الحاجيات في سيارة رينو من فرنسا إلى تونس، ولأنه أيضاً من مسؤولياته، ترتيب إدخال الأثاث للكوادر الفلسطينية، فبدا عادياً أن يقوم بتقديم هذا (الأثاث) إلى الرئيس محمود عباس (أبو مازن)، واستقرت أدوات التجسس هذه في مكتب أبو مازن، وفيما بعد عرف السر، الذي كان يحيّر رجال أبو مازن، الذين كانوا يتفاوضون هناك بعيداً في أوسلو، مع العدو الصهيوني، وبدوا أمامهم مكشوفي الظهر تماماً.
وفيما بعد تحدّثت أوساط صهيونية أن القيادة الصهيونية شعرت أن ذلك (العري) الفلسطيني في المفاوضات السرية في أوسلو، بدأ يعكر أجواء المفاوضات التاريخية بين الفلسطينيين والصهاينة، وأن الوفد الفلسطيني يشعر بمهانة كبيرة وهو يواجه الوفد الصهيوني المدعّم بالخبرات والمعلومات، عارياً، ولم يكن يعرف أحد أن سبب كل ذلك، الكرسي الفاخر والأدوات الملحقة الجميلة.
الجاسوس الأخير
وبعد التحقيق مع ياسين الذي لم يكشف عنه الكثير، فإن المعلومات المؤكدة كانت تتعلق بأن الموساد زوّده بأجهزة تنصت متطوّرة جداً، وبعضها مثل الذي زرع في مكتب أبو مازن يمكن أن يعمل لخمس سنوات دون تغييره.
وبالطبع لم يقتصر دور ياسين على ذلك، فأشارت التقارير التي نشرت بعد اعتقاله إلى تعاون ابنه هاني الذي يملك كراجاً للسيارات في العاصمة التونسية، وكان يتم وضع أجهزة تنصت في السيارات التابعة للمنظمة و لرجالها التي تذهب للتصليح في كراج هاني.
ويبدو أن المخابرات الفرنسية أرادت أن تقدّم خدمة لمنظمة التحرير ضمن التعاون الاستخباري أو حتى.. ربما (تكفيراً) عن الإخفاق في حماية (ضيفها) عاطف بسيسو والذي وصله رجال الموساد وقتلوه على أرضها، أو أرادت أن تردّ صفعة الاغتيال إلى وجه الموساد، وسرت الحرارة في الخطوط الساخنة الفرنسية والتونسية والفلسطينية، وقبل اعتقال عدنان ياسين أخضع لرقابة مشدّدة وتم ضبط سيارة رينو 25 أرسلت إليه من ألمانيا، فاعترضتها الجمارك التونسية، وتم تفتيش السيارة واكتشاف أجهزة تنصت دقيقة فيها، وتم القبض على ياسين الذي وصف بأنه أخطر جاسوس للعدو الصهيوني في منظمة التحرير، ولكن ربما كان ياسين الذي قدّم معلومات وافرة للعدو الصهيوني في منعطف تاريخي في العلاقات بين العدو الصهيوني والمنظمة، من الجواسيس المهمين الذين تم كشفهم، ولكنه ربما لم يكن أخطرهم، ففي عالمٍ مثل الجاسوسية لا يعترف بسهولة بأفعال التفضيل.
وبعد اعتقال ياسين، أصبح مصيره غامضا، وتردد انه اعدم في المياه الدولية أو انه نزيل سجن في اليمن أو تونس، ولكن تقارير نشرت بعد انتخاب أبو مازن رئيسا للسلطة الفلسطينية، أشارت إلى استجابته لطلب ملح من عائلة الجاسوس بإطلاق سراحه من سجن تونسي وإبعاده إلى بلد اسكندنافي وافق على استقباله.
وإذا صحت تلك التقارير فأنها تشير إلى أن أبا مازن الذي قال في مقاله عن قضية ياسين انه لم يبخل أبدا بتقديم المساعدة له لعلاج زوجته، وافق أيضا على تقديم مساعدة هامة وأخيرة للجاسوس الأخير في منظمة التحرير قبل عودتها إلى الوطن.