تجربة تجسسية نادرة وأسرار تكشف كيف كانت تتصارع المخابرات؟!
المجد-
شهدت ستينات القرن العشرين وقوع أحداث عاصفة في التاريخ العالمي . فقد أدت أزمة الكاريبي عام ألف وتسعمائة واثنين وستين إلى وضع يهدد بنشوب حرب نووية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي . وفي تلك الفترة تركزت المجابهة بين الدولتين، الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة ، على كسب الجديد من مناطق النفوذ الحيوية ، الأمر الذي كثيراً ما أفضى إلى حروب دموية طويلة على اتساع الكرة الأرضية . بيد أن المعارك الحربية الطاحنة في فترة الحرب الباردة صاحبتها حروب تجسس لا تقل عنها ضراوة ، دارت بين القطبين المتنافسين .
العقيد أوليغ نيتشيبورنكو يعتبر من أبرز المحارين القدامى للحرب الاستخباراتية في أمريكا الاتينية. حتى خصومه، من عملاء وكالة المخابرات المركزية ( السي . آي . إيه ) اعترفوا بأنه كان أفضل ضابط عمليات للمخابرات السوفييتية ( الكي . جي . بي ) في المنطقة. لقد أمضى نيتشيبورنكو في المكسيك زهاء عشر سنوات وفي عام 1971 طرد منها اثر اتهامه بمحاولة تدبير انقرب عسكري. عمل أوليغ نيتشيبورنكو في جهاز الكي . جي . بي حتى عام ألف وتسعمائة وأربعة وثمانين وهو في منصب رئيس قسم دراسة الإرهاب الدولي .
السيد أوليغ .. بداية نود أن نرحب بكم في برنامجنا ..
( نيتشيبورنكو : شكراً) نحن سعداء لأنكم وجدتم الوقت لتلتقوا بنا وتقدموا لنا معلومات قيمة للغاية ، وكما آمل ، ومن مصادرها الأصلية.
أعتقد من الأفضل أن نبدأ من عملكم في المكسيك . لقد عملتم فترة طويلة في أمريكا اللاتينية ، أو كما يقال في الحديقة الخلفية للولايات المتحدة، في ذروة الحرب الباردة ..
كيف كنتم تقومون بعملكم هناك من الناحية التنظيمية؟
عملت تحت غطاء وظيفة رسمية في القسم القنصلي للسفارة السوفييتية في العاصمة المكسيك . وكانت مهمتي تتمثل في منع تسلل الأجهزة الخاصة للخصم إلى المؤسسات السوفييتية . فقد كان الهدف الرئيسي للسي . آي . إيه هو الحصول على المعلومات عن طريق تجنيد المواطنين السوفييت من المقيمين والعاملين في السفارة . وكان علينا أيضاً أن نؤمِّن النشاط الاستخباري لعملائنا المقيمين.
يقول ضابط الاستخبارات الأمريكية سابقا فيليب إيجي يقول في كتابه الشهير ( يوميات موظف في السي . آي . إيه ) إن الأمريكان كانوا يعرفون ممثلي الأجهزة الخاصة السوفييتية من لحظة طلبهم التأشيرة من السفارة المعنية. ومن تلك اللحظة يبدأ جمع المعلومات عنهم وعن أسرهم و ما إلى ذلك..
هل كانو يعرفون حقيقة عملكم ؟ يعني هل علموا بأنكم ضابط مخابرات قبل أن تصلوا إلى المكسيك ؟
نعم ! كانت تلك ممارسة معروفة لنا جيداً . ليس ذلك فقط في بلدان أمريكا اللاتينية، بل وحيثما كانت تعمل ضدنا المخابرات المحلية المتعاونة مع المخابرات الأمريكية حيثما كانت. ومنذ تقديم مذكرة بطلب منح تأشيرة لأحد موظفي سفارتنا كانت المعلومات عنه تنقل عبر وزارات الخارجية المحلية مباشرة إلى المخابرات الأمريكية . وربما كان ذلك يتم عن طريق المخابرات المحلية ، وفي بعض البلدان كان يجري بواسطة العملاء المجندين في تلك الوزارات . أي أننا كنا نصل إلى مكان العمل وقد أصبحنا تحت المراقبة الخارجية .
عندما بدأتم العمل في المكسيك .. ما هو التكتيك الذي استخدمته السي . آي . إيه ضدكم مما شعرتم به منذ البداية ؟
أول ما يفعله الخصم هو معرفة مكونات شخصية القادم الجديد .. أعني صفاته الشخصية ، اهتماماته ، ميوله .. كل شيء عنه . ملامح طباعه ونفسيته. هذا ما كان تقوم به وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية ( خالد : أي تحديد معالم شخصيته ) نعم ، أي ما يسمى بـالprofile أو " الملف " . يجري رسم صورته النفسية ، لكي يحدد الخبراء بعد ذلك ما المطلوب عمله مستقبلاً تجاه هذا الشخص . أحياناً كانت توضع نماذج خاصة لمواقف معينة تساعد على استيضاح بعض ملامح طباعه التي لم تكن تظهر في مجرى الحياة العادية . هكذا كانت التقنية.
ما هي قوانين اللعبة إن صح التعبير التي كانت موجودة آنذاك بينكم؟
الواقع كنا نعمل في منطقة نفوذ السي . آي . إيه المطلق، حيث كانت إمكانياتها عملياً غير محدودة. ومن حين لحين كان يحدث بيننا وبين السي أي إيه تقارب أو تباعد فيما يخص قوانين اللعبة، وكان ذلك يتعلق بمستوى التقارب عامة بين الاتحاد السوفييتي و الولايات المتحدة في الحرب الباردة. كانت هذه الأحايين تتوقف على عوامل عدة, مثلا: من يتولى قيادة المركز في موسكو، وما هو موقفه من إقامة اتصالات و التقرب من العدو الإيديولوجي. أي كلما زاد التقارب على المستوى السياسي كلما صغرت المسافة المجازية بين الاستخبارات. المسألة هنا أن الاتصالات الشخصية تتيح إمكانية دراسة غريمك أو خصمك بشكل جيد. وعلى سبيل المثال يصدر أحد المسؤولين في مخابراتنا أو المخابرات الأمريكية تعليمات بإقامة المزيد من الاتصالات بممثلي الخصم . وهذا قرار منطقي .. لأن الاتصال الشخصي يفتح لك آفاقا أوسع لتجنيد المخبرين المفترضين .. ولو أن شخصاً كهذا فكر أو قرر أن يعرض عليك معلومات ملفتة للاهتمام .. فبمن يتصل ؟ بالطبع سيتصل بالشخص الذي تربطه به علاقات ودية و مميزة. ( خالد : أي أن ذلك يتوقف على التكتيك و المهارة ؟ ) ، نعم ، على التكتيك و المهارات . ولكن أحياناً كان يأتينا أمر من الرئاسة ، أن نتبع تكتيكاً هجومياً ، فنبدي نشاطاً متزايداً في حفلات الاستقبال وفي المناسبات الرسمية ومختلف المقابلات في النوادي، أي أننا كنا ننظمها ، ونذهب لنتعرف على أشخاص مهمين، ولكن الجانب الأمريكي في هذه الأحيان لم يكن يحبذ الاقدام على الاتصال الشخصي المباشر . فكانت تأتيهم معلومات بأن يبتعدوا عن الروس كليا ! يبتعدوا حتى عن أبسط اتصال رسمي _ ودي ! ولكن في الظروف الأخرى كنا نشعر فجأة في نشاط واسع لإقامة العلاقات من الجانب الأمريكي، أما نحن فنتلقى في هذا الحين تعليمات جديدة : " قللوا من الاتصالات ، ممنوع أي مقابلات رسمية مع الأمريكان ! " وهلمَّ جرا . ولكن كانت هناك فترات اتفقت فيها تعليمات الرؤساء من الجانبين ، وعندئّذ كنا نجري لقاءات في نهاية الأسبوع بين العملاء المقيمين التابعين عملياً لجهتين متعاديتين. و هكذا كانت الأمور دوما… بين المد و الجذر.
كتبتم أنكم حتى أقمتم مباراة في كرة الطائرة ؟
في كرة الطائرة .. نعم كنا نذهب إلى أحد النوادي الرياضية .. وهناك نلتقي بزملائنا الأمريكان من السي أي إيه الذين يلعبون كرة الطائرة فنلعب معهم ! أما زوجاتنا وزوجاتهم فيقمن أثناء ذلك بإعداد مختلف السندوتشات الصغيرة لنا ( خالد : وهذا يحدث في ذروة الحرب الباردة ! ) نعم في ذروة الحرب الباردة ! ( خالد : السي . آي . إيه والكي . جي . بي . تلعبان كرة الطائرة ! ) بل شارك في هذه المباريات أيضاً رجالنا من ال GRU (خالد: المخابرات العسكرية) نعم، بالطبع لعبوا في فريقنا ، لأننا لم نستطع تشكيل فريق جيد من عناصر الكي جي بي وحدهم .. وهكذا لعبنا مباريات ودية مع الأمريكان بمشاركة جهازين اثنين من أجهزة مخابراتنا ! ومن الطبيعي أن نتفرق في المساء لكي ( خالد : تلتقوا بالعملاء .. ) لكي يكيد بعضنا لبعض ، ولنلتقي بالعملاء ونحصل منهم على معلومات عن أولئك الأشخاص الذين قضينا معهم إجازة ودية نهاراً . ولكن تلك كانت طبيعة العمل .
موضوع داخل البرنامج :
طبقاً لمبدأ مونروعن عام 1823 ، أخذت أمريكا الشمالية على عاتقها دور الشرطي في دول أمريكا اللاتينية . ومع ظهور مبدأ أيزنهاور وحتى نهاية الحرب الباردة ، وقفت ( السي . آي . إيه ) حاجزاً في وجه الثورات الاشتراكية في بلدان أمريكا اللاتينية ، وخاضت حرباً نشطة ضد الحكومات الوطنية والحركات الشعبية المدعومة من للاتحاد السوفييتي. ففي عام ألف وتسعمائة وأربعة وخمسين نظمت السي . آي . إيه انقلاباً ضد رئيس غواتيمالا هكابو آربنس غوسمان بعد إقامته علاقات دبلوماسية مع الاتحاد السوفييتي والسماح بنشاط الحزب الشيوعي في بلاده. ومع ذلك وقفت السي . آي . إيه عاجزة في بعض الحالات. فالإطاحة بزعماء مثل فيديل كاسترو أو دانييل أورتيغا كان يتطلب عملية عسكرية واسعة النطاق وليس مجرد وضع خطة سرية للاستخبارات.
هل أخذتم على عاتقكم حماية المنظمات الشيوعية الموجودة في أمريكا اللاتينية ، وربما الحكومات الميالة للتعاون مع الاتحاد السوفييتي و التقرب منه ؟
كانت تواجهنا مصاعب كبيرة آنذاك لأن الأحزاب الشيوعية في أمريكا اللاتينية كانت في معظمها أحزاباً سرية، والشرعية منها كانت تحت رقابة مشددة. الحزب الشيوعي في المكسيك مثلاً كان تحت رقابة صارمة من الأجهزة الخاصة المحلية ورقابة مستقلة من جانب وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية . وكانت مسألة دعم الأحزاب الشيوعية تدخل في إطار المحور الأول لعمل استخباراتنا و هي ثلاث – السياسية، ومكافحة التجسس، والاستخبارات العلمية ـ التقنية. وعلى سبيل المثال ، العمل على المحور السياسي الذي كنت منخرطا فيه آنذاك كان يتطلب دراسة الشؤون السياسية الداخلية المتعلقة بالحصول على معلومات لمعرفة أو تنبؤ من سيكون الرئيس القادم للبلاد. إضافة إلى أمور أخرى متعلقة بالسلطة و الحكم في البلد أي بالحياة السياسية بشكل عام.
و كان على الجانب الأمركي ممارسة التضليل في هذا الشأن
نعم. إضافة إلى الاستخبارات الأمريكية كانت تراقب عن كثب نشاط المنظمات اليسارية ، وبالدرجة الأولى الأحزاب الشيوعية . كان لها عملاء فيها على أعلى المستويات وكنا نعرف ذلك و نحاول كشفهم، ومع ذلك ( خالد : كانت مهمتكم بالطبع هي فقط الكشف عن هؤلاء العملاء) لم يكن بوسعنا أن نعمل ضدهم بنشاط ، لأننا كنا ننفذ بدقة المهام التي كلفتنا بها قيادتنا الحزبية ولم نكن نمارس أعمال مكافحة التجسس تجاه الحزب الشيوعي المكسيكي .
وما هي الأحوال التي حالفكم فيها الحظ بصفة خاصة خلال عملكم في المكسيك أقصد فيما يخص تجنيد أشخاص من ولالة الاستخبارات المركزية أو ممن له علاقة بها؟
لا أظن أنني أستطيع التحدث بهذا الخصوص فهذا هو المجال الذي يبقى سراً مهما طال به الزمن .. إنه سر غير قابل للكشف عنه حتى يؤذن لنا بالكلام.
و لكن لماذا لأن بعضهم ما زال على على قيد الحياة ؟
كونهم أحياء ليس كل شيء .. فلديهم أقارب ومقربون و ما إلى ذلك..
طيب, بعد أن يأتيكم أحد المخبرين مثلاً و يقول لكم بأن فلان الفلاني من رجالكم يعمل لصالح السي . آي . إيه .. ما الذي كنتم تقومون به ساعتها؟
لا يمكن الإجابة على هذا السؤال بصورة عامة، لأن كل حالة كانت تعالج حسب الظروف المحددة. وهذا في الواقع هو الجانب الإبداعي في العمل الاستخباري. لأن العمل الاستخباري على مستوى الممارسة اليومية عمل إبداعي ، أما على المستوى الأعلى فهو بيروقراطية .
هذا مفهوم .. ولكني أقصد .. كيف كانت حدود تصرفكم مع العميل .. يعني هل كان بإمكانكم تصفيته مثلا ؟ هل كانت لديكم الصلاحيات للقيام بذلك؟
كلا .. مسألة التصفية الجسدية في الخارج لأعدائنا ألغيت منذ مطلع الخمسينات بعد وفاة جوزيف ستالين ، ولذلك لم تكن مثل هذه المهام مطروحة أصلاً. كل ما هناك أن نعمل على حرمان هذا الشخص من إمكانية إلحاق الضرر والأذى ، بما في ذلك حرمانه من الوصول إلى مصادر المعلومات . أما إذا توفرت الإمكانية .. كنا نرسل هذا العميل المزدوج إلى الاتحاد السوفييتي لتتم مساءلته هناك. وقد واجهنا حالة كهذه . فقد تحولت إحدى موظفات التمثيل التجاري لدى السفارة السوفياتية في المكسيك إلى العمل لصالح الخصم . ولكننا بعد فترة عرفنا أين تختفي وماذا تفعل هناك . بلغنا بذلك المركز و قمنا ببعض الاجراءات و لكن لم يتم تصفيتها.
هل ألحقت تلك المرأة أضرارا كبيرة بمصالحكم هناك؟
تلك الحالة بخصوص إنتقال إحدى سكرتيرات التمثيل التجاري كانت حالة طارئة . بالطبع ألحقت تلك المرأة بنا أضراراً جسيمة. وقد عقد لها الأمريكان مؤتمراً صحفياً وقدموا تغطية إعلامية واسعة لواقعة انتقال مواطنة سوفييتية إلى الجانب الأمريكي. لقد كشفت أسماء عدد كبير من موظفي القنصلية السوفييتية الذين لم يكونوا مجرد دبلوماسيين بل من العاملين في المخابرات .. وما إلى ذلك . بل قدمت تعريفاً لكل منهم . ووقعت عندنا حادثة أخرى ، جرت فيها مخالفة أصول عملية التجنيد من جانب السي . آي . إيه . بالنسبة لأحد موظفي القنصلية السوفياتية في المكسيك . جرت العملية بعد أن تمت دعوة هذا الموظف لصيد السمك عن طريق مواطن مكسيكي حمل أوراقا ثبوتية أمريكية مزيفة . وكانت حادثة طارئة لأن الأمريكان لجأوا فيها إلى التهديد باستخدام القوة ضد الشخص الجاري تجنيده و هو مواطن سوفياتي و دبلوماسي. كما أسلفت فقد دعا المواطن الأمريكي المزعوم موظف قنصليتنا إلى الصيد ، وذهب به إلى مكان بعيد في زورق على النهر، ثم جاء أشخاص وعرضوا عليه أن يعمل لصالحهم . كان أحدهم من رجال الاستخبارات السوفياتية – الكي . جي . بي سابقاً ، وقد انتقل إلى العمل لصالح الاستخبارات الأمريكية و هرب إلى الغرب و استقر بعد ذلك في المكسيك. عرض الأمريكان على الخبير السوفييتي العمل لصالحهم ، وعرضوا عليه مبلغاً كبيراً جداً بمقاييس تلك الفترة ، ثم أخذوا يهددونه بالتصفية البدنية. و كان في وضع لا يسمح له بالاتصال بالسفارة أو طلب العون .. رغم أنه شخص ..
هل كنت تعرفه شخصياً ؟
كان زميلي .. كنا نعمل معاً في القنصلية و كنت أعرفه جيدا و كان على علم بأنني أعمل في السفارة السوفياتية بتغطية ديبلوماسية. الشيء الذي سهل الأمور هو كون ذاك الشخص قد تمتع بقوة بدنية كبيرة وكان قوي الإرادة . كان بوسعه الدفاع عن نفسه . أتدري ، لقد أخضع له ذلك الأمريكي ، وغادر المكان ..
ماذا تقصد ؟ هل هرب ؟
لم يهرب ، بل غادر المكان بعد أن أرغم ذلك الشخص على الجلوس في السيارة ، ورحل معه . ووقع حادث آخر ، وأيضاً بالتهديد باستخدام العنف ضد أحد موظفينا بغية تجنيده . وهنا كنت مشاركا مباشرا في هذه العملية . فقد تمكن رجلنا من الاتصال وقال أنه في وضع صعب . فعندما اقترب من سيارته وجد أشخاصاً بها هددوه بالسكاكين . لكنه تمكن من ترك السيارة والهرب ، واتصل بالسفارة وأسرعنا نحن بملاحقة من حاولوا تجنيده .
هل كانوا من المحليين أم من الأنغلوساكسونيين ؟
كانوا أنغلوساكسونيين يحملون أسماء مستعارة . قضينا الليل كله نبحث عن السيارة . ثم وجدناها . واتضح أنها بإسم الشخص الذي تولى التجنيد . وعرفنا مكانه فاحتجزناه ، ولكن اتضح أنه ليس المقصود، بل استخدم شخص آخر بياناته ( خالد : ولكنه لم يعترف .. ) استدعينا الشرطة المكسيكية ، فقبضوا على الشخص الحقيقي ، وجرى التحقيق في الشرطة ، واستدعوا القنصل الأمريكي ، حيث اصطدمنا به في مواجهة مباشرة لأن القضية كانت تمس مواطني البلدين . ولكن الأمور انتهت بخير .. فقد تمكنا من التوصل إلى حل لهذا الأمر.. بالمناسبة ، كانت الشرطة المكسيكية تتابع بفضول كبير هذا الصراع الناشب بين الهيئتين الأمنيتين على أراضيها . فالجميع كان على علم بأن هذه الأشياء كانت عبارة على حققة في مسلسل الحرب الاستخباراتية بين القوى العظمى في المنطقة.
هل كشفتم بعض العملاء المزدوجين كما يسمون؟
حدث ذلك .. كان استخدام العميل المزدوج ممارسة معترف بها من الجانبين. في هذه اللعبة المعقدة تتوقف الأمور على السرعة التي تكتشف بها هذه المخابرات أو تلك أن مخبرها يعمل في الحقيقة لصالح العدو .. البعض يُكتشف مبكراً والبعض متأخراً .. البعض يتمكن من العمل فترة أطول لصالح الخصم ، والبعض فترة أقل. وكان ينبغي الحذر من الأفراد الذين يسميهم الأمريكان بالــ
" Walk in " أي "المبادرون" ، بلغة مخابراتنا و كانت هذه الظاهرة منتشرة آنذاك.إنهم أولئك الذين يأتون من تلقاء أنفسهم ليعرضوا خدماتهم . كانوا من شتى الأشكال. جاءنا مثلاً إلى القنصلية ذات مرة شابان ومعهما حقيبة يدوية و قد قمنا استقبلناهما . قدما نفسيهما على أنهما من المافيا ! ممثلين للمافيا المكسيكية ، وعرضا خدماتهما في تصفية الأشخاص غير المرغوب فيهم . وتأكيداً لنواياهما الخالصة، فتحا الحقيبة فرأينا فيها .. مسدسات ورشاشات مفككة ( خالد : يعني نقودا في المقابل ؟ ) نعم ! عرضوا خدماتهم على أساس مادي بحت . وعندما قلنا لهما : " أخطأتم العنوان يا سادة " لم يفهما في البداية ثم سألا : كيف ؟ ألا تمارسون هذا ؟ .. كيف يمكن ألاَّ تمارسوا ذلك؟ هكذا انصرفا وهما في غاية الدهشة ..
ولكن .. هؤلاء المافيا الذين جاءوا إليكم .. أليس من الجائز أن يكونوا مدسوسين .. من السي . آي . إيه مثلاً ؟
أي شخص يأتي إلى السفارة السوفييتية أو أي سفارة أخرى عارضاً خدماته يُنظر إليه على أنه مصدر استفزاز محتمل .. أي كشخص ربما يعمل بتوجيه من الأجهزة الخاصة وينفذ مهمة كلف بها .. ومن ناحية أخرى هناك احتمال بنسبة خمسين في المائة أن يكون من المبادرين ، فاعل خير ، يريد نقودا في المقابل أو على أساس آخر… أن يقدم خدماته فيما يتعلق بنقل معلومات أو نماذج معدات و هكذا.
وهل كنتم تمولون أي تشكيلات متطرفة تعمل ضد مصالح أمريكا ومواطنيها في الخارج ؟ هل كنتم تدعمون هذه المنظمات بشكل من الأشكال؟ أو تتعاملون معها بشكل أو بآخر؟
أستطيع أن أجزم بأن موقف رئيس الكي . جي . بي يوري أندروبوف من مكافحة الإرهاب كان في غاية الوضوح . كان مفروضاً علينا حظر قاطع على التعامل مع المنظمات الإرهابية التي بإمكانها أن تنقلب خطراً علينا ، ومُنعنا من التعامل معها منعا باتا .
ولكن لماذا ؟
لأن أي خطأ كان بالإمكان أن يستخدم ضدنا . إضافة إلى أن السي . آي . ايه كثيراً ما كانت تشكل مجموعات إرهابية تزعم وكأنها من صنع وتمويل الاتحاد السوفييتي ، أي من جانبنا .
لننتقل الآن إلى الحديث عن سبب إعلانكم شخصا غير مرغوب فيه في المكسيك ، وذلك بناء على ما كتب لمحاولتكم القيام بتدبير انقلاب ضد الحكم هناك. إلى أي مدى هذا صحيح ، وما هي الأسباب الحقيقية لطردكم أنتم وثلاثة من زملائكم ؟
كما تعلم .. كثيراً ما يحدث في الحياة أن تكافح ضد شيء ثم يتهمونك به . لقد كافحت دائماً ضد الإرهابيين ، لكنهم اتهموني بتكوين منظمة إرهابية متطرفة .. الأمر ببساطة أنني فيما يبدو .. أزعجت السي . آي . إيه .. لأني بطبيعة عملي في القنصلية ووظيفتي كمسؤول عن الأمن كنت أتدخل دائما وأقف ضد الأعمال التي ينفذها عملاء السي . آي . إيه المقيمون . لقد كتب عن ذلك فيما بعد جورج سميث الإبن في كتابه ( جندي الحرب الباردة ) حيث قال إن الأمريكان منذ البداية درسوني باهتمام وعناية بغية تجنيدي . ثم توصلوا إلى استنتاج بأني غير قابل للتجنيد، فقرروا التخلص مني بالافتراء على عملي في المكسيك. و قد استطاعوا القيام بذلك بعد تحول موظفة التمثيل التجاري إلى العمل لصالح السي . آي . إيه والذي تحدثت عنه آنفاً . كانت غفلة منا آنذاك ، دون شك .
أي أنها كشفت لهم أنكم تعملون لصالح الكي جي بي…
ذكرت اسمي بين من ذكرت .. وعلى أساس هذه الاعترافات بنى الأمريكان اتهامهم . بالإضافة إلى معلومة أنني أعمل في الكي . جي . بي أضافوا من عندهم أنني أشارك في تكوين منظمة يسارية متطرفة في المكسيك . وكان دوري في تكوينها ، حسب طرح السي . آي . إيه أن أعضاء هذه المجموعة كانوا من طلبة جامعة الصداقة بين الشعوب في موسكو . وقد أرسلهم معهد الصداقة المكسيكية ـ السوفييتية للدراسة في الاتحاد السوفييتي ، وكنت أنا المسؤول عن إرسالهم . وعندما عاد هؤلاء من موسكو إلى المكسيك أسسوا منظمة ذات توجه يساري . وقاموا بتفجير أعمدة خطوط الكهرباء . ثم ضبطت عندهم أسلحة فأصبح الاتهام جاهزاً تماماً . كان ذلك مسوغاً ممتازاً لاتهامي ، أنا أوليغ نيتشيبورنكو ، بالمشاركة في تكوين منظمة إرهابية . واتهم خمسة غيري في هذه القضية واعتبرونا " أشخاصا غير مرغوب فيهم " وجرى ترحيلنا إلى الاتحاد السوفييتي . وهكذا أصبحت مدى الحياة حاملاً للقب " شخص غير مرغوب فيه " ( خالد : هناك ، في المكسيك ) نعم شخصاً غير مرغوب فيه في المكسيك .. وبعد مرور سنة على ذلك وصل رئيس المكسيك لويس اتشيفيريا ألفاريس في زيارة رسمية إلى الاتحاد السوفييتي . وعندما سئل عن الموقف منا قال إن الذين رحِّلوا من المكسيك في مارس عام واحد وسبعين يمكنهم أن يرجعوا فليس لنا عليهم أي اعتراضات. و ربما كان ذلك اعترافا منه ببراءتنا من ذاك الاتهام. هكذا كانت الظروف حينذاك .. كان ذلك أسلوباً من أساليب العمل ضدنا . كان طرد الخبراء السوفييت الجماعي يجري في كثير من الأماكن . فقد طرد الإنجليز (خالد: مائة وخمسة أشخاص) نعم ، وطردت المكسيك خمسة ثم طرد الفرنسيون بضع عشرات .
هل يمكن القول إذن أنه كان هناك بين السي . آي . إيه وحكومة المكسيك تعاونا وثيقا و أن نفوذ السي أي إيه كان عظيما هناك ؟
فعلا! ( خالد : كانت هناك معلومات .. ) على كل حال لم تكن بينهما أي اتفاقية رسمية للتعاون بين أجهز ة الاستخبارات . ولكن التعاون السري غير المعلن ، كان وثيقاً للغاية.
الموضوع الختامي :
وضع أوليغ نيتشيبورنكو عدة كتب تحليلية عن الاتفاقيات السرية والحقائق المجهولة للعمل السري الذي قامت به السي . آي . إيه . وبعد أن تنحي عن النشاط العملياتي واصل العمل في منصب المدير العام " للمؤسسة الوطنية لمكافحة الجريمة والإرهاب " .. وكتب نيتشيبورنكو بحثاً هاماً عن مقتل جون كيندي ، بل ووضع يده على أثر روسي في هذا الحادث ، وحسب قوله فما زال لديه كتاب لم يضعه . وسوف يتناول فيه العلاقات الودية بين الزملاء المتنافسين من السي . آي . إيه والكي . جي . بي … تلك العلاقات التي نشأت في فترة الحرب الباردة ، والتي جرى الحديث عنها لأول مرة في حلقة اليوم من برنامج .. " رحلة في الذاكرة " .