مؤرخ إسرائيلي: عدم إبادة الفلسطينيين عام 48 خطأ تاريخي
آري شافيت – صحيفة ها آرتس
العرب هم برابرة العصر الحديث، وهم قادمون، وإسرائيل تقف اليوم في جبهة صدام الحضارات بين الغرب ومفاهيمه والعالم العربي والإسلامي ومفاهيمه.
وجرائم الحرب التي اقترفتها إسرائيل عام 1948 من مجازر واغتصاب وإعدام ليست شيئاً مقارنة بجرائم الآخرين من روس وصرب وسواهم. كما أن طرد مئات الآلاف من الفلسطينيين عام 1948 لم يكن خطأ أو جريمة حرب، بل ان الخطأ الذي ستدفع إسرائيل ثمنه هو عدم إكمال دافيد بن غوريون مهمة “تنظيف” فلسطين الانتدابية من العرب.
ورغم ذلك فإن الظروف المقبلة يمكن أن تجعل عملية طرد العرب من فلسطيني ضرورة لا بد منها.
هذه ليست أقوال الحاخام مئير كهانا قبل مقتله في نيويورك وليست تصريحات “السيد ترانسفير” رحبعام زئيفي قبل إعدامه في القدس. إنها ببساطة جزء يسير وملطف من أقوال المؤرخ الإسرائيلي بني موريس في مقابلة نشرتها “هآرتس” الجمعة .
وتكمن قيمة أقوال موريس هذه في وضعية صاحبها. فهو “اليساري” ابن حركة “هشومير هتسعير” والذي أخذته “يساريته” الى حد التأسيس لتيار “المؤرخين الجدد” الذي اعتبره الكثيرون “تيار ما بعد الصهيونية”. وهو في المقابلة الطويلة والمثيرة يتنقل بين النتائج البحثية والاعترافات الذاتية. فيكشف في “حفلة تعر فكرية” عن هواجس ومكنونات صدر “اليسار” الإسرائيلي.
وبعد أن كان في الماضي قد أسهم، من خلال أبحاثه، في فضح المؤسسة الرسمية الصهيونية وخصوصا أكاذيبها حول قضية اللاجئين و”طهارة السلاح”، يفضح اليوم من خلال “اعترافاته” حقيقة “اليسار” الإسرائيلي. ويبيّن، بما لا يدع مجالاً للشك أن الصهيونية واليسار لا يلتقيان، وأن جميع الطروحات حول السلام، ان اقترنت بالصهيونية أو بالتركيز على “الطابع اليهودي” لا يمكنها أن تنطلق إلا من أسس عنصرية وامبريالية.
وتقود “اعترافات” بني موريس الى ضرورة التمييز في “اليسار الإسرائيلي” بين من هم على استعداد للتعامل على قدم المساواة مع العربي في جميع الميادين، وبين من يرون أنفسهم “امتداداً” للغرب. وهذا يعني إعادة توحيد الإسرائيليين، بأغلبيتهم الساحقة، حول جوهر الفكرة الصهيونية، التي يعيد بني موريس إعلان انتمائه لها.
والواقع أن “اليساري” بني موريس يثير لدى الصحافي، آري شافيت، الكثير من التناقضات. ورغم تأكيده على “يساريته”، يعرض تأييده للمواقف الأشد يمينية. ورغم فضحه لأفعال الصهيونية يعود لوضع هذه الأفعال في “سياق” صراع الخير والشر. فإسرائيل، منطلقاً ووسيلة وغاية، هي الخير المطلق ورافعة التقدم، والفلسطينيون، كما العرب والمسلمون، بفضل طباعهم وسماتهم الملازمة هم الشر وثقالة التخلف. وليس هذا وحسب، فالفلسطينيون الآن هم “حيوانات” متوحشة ينبغي وضعها في أقفاص، وإن كانوا بشراً، فإنهم قتلة منتظمون يجب إما اعتقالهم وإما إعدامهم.
و”اليساري” بني موريس ليس أول من أفصح عن هكذا مواقف في السنوات الثلاث الأخيرة. إذ انتقل الكثير من قادة “اليسار” السابقين الى مواقع اليمين المتطرف طوال تاريخ الفعل الصهيوني. وهذا بشكل ما جرى
مع موشيه سنيه الذي انتقل من قيادة الحزب الشيوعي الى المواقع الصهيونية، وحركة “رافي” التي قادها بن غوريون بعد انسحابه من حزب العمل والتي انضمت لاحقا لليكود، وقادة “أحدوت هعقودا” الذين صار بعضهم من غلاة أنصار أرض إسرائيل الكاملة وغوش إيمونيم. وقد لحق بهؤلاء في التيار الفكري أكاديميون وصحافيون ورجال قانون ومفكرون.
ولكن للصيرورة التي مر بها بني موريس طعما خاصا. فآراؤه لم تتغير بسبب طموح سياسي، وليس بسبب الانعزال. إذ انه يعيش معظم وقته في بريطانيا رغم عودته للتدريس في الجامعة العبرية. ومعروف أن الأجواء الأكاديمية سواء في بريطانيا أو أميركا ميالة بشكل بارز لانتقاد إسرائيل إن لم يكن لمناصبتها العداء. ولذلك فإن “اعترافاته” تشكل درجة من الجرأة غير معهودة في هذا المستوى من الأكاديميين. فهو ضد “الهراء” المسمى “الاستقامة السياسية”، ومفهومه عن جرائم الحرب “نسبي” ومتغير ويتحدد وفقا للمصلحة اليهودية العليا.
ومع ذلك يبيّن موريس في طروحاته الأبوكليبتية (الأخروية) أن المشروع الصهيوني نهايته هو الخراب. ولكنه لا يعتبر ذلك من أخطاء الصهيونية. وهنا تبدو مفارقات موريس في ذروتها: فهو في كل موضع يبرر بشكل أو بآخر المنطق الميكافيللي للمشروع الصهيوني في جرائمه ضد الشعب الفلسطيني، ولكن “الخراب” كفاية يصير هائل التناقض مع “الدولة اليهودية” كوسيلة غاية. وهو يحاسب الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات والنخبة الفلسطينية لأنها تؤمن في قرارة نفسها بأن الدولة اليهودية كالمشروع الصليبي، ولكنه يعود لاعتبار هذه الدولة “امتدادا” للغرب كالصليبيين. ويضع اليهودية والمسيحية الغربية في الخندق ذاته الذي يتصادم حضارياً مع العرب والمسلمين، رغم أن هذه المسيحية، وكما يعرف كل مؤرخ، أذاقت اليهودية شر العذاب. وكان العصر الذهبي لليهود مع العرب والمسلمين في الأندلس. وفي الوقت الذي لاحق كثير من الأوروبيين اليهود في العصر الحديث، عمد العرب والمسلمون في المغرب والعراق ودول أخرى الى حمايتهم.
ورغم ما تنطوي عليه “اعترافات” بني موريس من صلافة وعنجهية وإيمان بالقوة، فإن أهم ما فيها أنها تشير الى ما يخفيه كل اليساريين الصهاينة في نفوسهم. ومما لا ريب فيه أن الكثيرين منهم، بعد اليوم، سيتجرأون على قول رأيهم بصراحة أكبر فيظهرون أن احتقارهم للعرب والمسلمين هو ما يدفعهم للتأكيد على هويتهم الغربية، وأن ذلك فقط ما يقود الى الخشية من “الخطر الديموغرافي” العربي الذي غدا الدافع الأساسي للعديد من مشاريع السلام التي يطرحونها.
لقد أعلن بني موريس أن العرب هم برابرة العصر الحديث. ومن المؤكد أنه في ذلك يعبّر ليس عن نتائج أبحاثه، وإنما عمّا يدور في خلده وفي ذهن الشرائح الاجتماعية والفكرية التي هو امتداد لها.
يقول بني موريس إنه كان صهيونياً على الدوام. والفأس أخطأت عندما صنفته ك”بعد صهيوني”، حينما ظنوا أن بحثه التاريخي عن ولادة مشكلة اللاجئين جاء لتشويه المشروع الصهيوني. وهو يقول ان هذا هراء وكلام لا يستند الى أساس. وان قسما من القراء لم يقرأ الكتاب بالشكل الصائب. إنهم لم يقرأوه بالجفاف ذاته الذي كتب فيه، وبالحيادية الاخلاقية ذاتها التي كتب بها. ولذلك توصلوا الى استنتاج خاطئ بأن موريس وهو يصف الأعمال الأشد وحشية التي نفذتها الصهيونية عام 48، كان يدينها. وأنه عندما كان يصف عمليات الطرد الكبيرة كان يشجبها. ولم يخطر ببالهم ان هذا الموثق الأكبر لخطايا الصهيونية يتماثل حقا معها. وهو يفهمها، ويظن أن قسماً منها كان محتوما.
وقبل عامين شرع بإطلاق أصوات اخرى. والمؤرخ الذي يعتبر يساريا راديكاليا ادعى فجأة أنه ليس هناك من يمكن الحديث معه. والباحث الذي اتهم بأنه عاق لإسرائيل (وقوطع من جانب المؤسسة الأكاديمية الاسرائيلية) شرع في نشر مقالات سجالية لمصلحة اسرائيل في صحيفة “الغارديان”.
وفي الوقت الذي تبدى فيه موريس المواطن كحمامة ليست مسالمة، واصل موريس المؤرخ العمل على الترجمة للغة العبرية لكتاب سميك يسمى “الضحايا” والذي كتب بالروحية القديمة، المتطلعة للسلام. وفي الوقت نفسه أكمل المؤرخ موريس الطبعة الجديدة من كتابه حول مشكلة اللاجئين التي ستظل في المستقبل تخدم كارهي اسرائيل. وهكذا فإن المواطن موريس والمؤرخ موريس عملا في العامين الفائتين وكأن لا علاقة بينهما، كما لو أن أحدهما يحاول إنقاذ ما يحاول الآخر تدميره.
وفي الشهر المقبل سيصدر كتابان. في تل أبيب، إصدار “عام عوفيد” كتاب “الضحايا” الذي يصف الصراع كله، من عام 1881 وحتى 2001. وفي بريطانيا، إصدار كامبردج، كتاب “ولادة مشكلة اللاجئين الفلسطينيين المنقحة”، الذي يصف بالتفصيل المثير للقشعريرة مظالم النكبة. ألا يرتدع بني موريس أحيانا من الآثار السياسية الراهنة لأبحاثه التاريخية؟ ألا يخشى من أن يكون قد ساهم في تحويل اسرائيل الى دولة شبه مجذوبة؟ وبعد لحظات من التهرب يعترف موريس بأن الأمر كذلك. وهو كثيرا ما يرتدع. وكثيرا ما يسأل نفسه عما فعله.
إنه قصير القامة، سمين ومكثف جدا. وهو ابن لمهاجرين من انكلترا، وقد ولد في كيبوتس عين هحوريش عام 1948 ويقيم حاليا في القدس. كما أنه متزوج وأب لثلاثة. وهو من خريجي حركة “هشومير هتسعير” الشبابية، وعمل في الماضي صحافيا في “جيروزليم بوست”، وكان فيما مضى من رافضي الخدمة في المناطق، ويعمل الآن أستاذا للتاريخ في جامعة بن غوريون. ولكنه عندما يجلس في مقعده في شقته في القدس لا يرتدي لباس المثقف الحذر، بل على النقيض من ذلك، يتحدث بن موريس برشاقة، بسرعة وحزم، وينزلق أحيانا الى اللغة الانكليزية. ولا يفكر بن موريس مرتين قبل ان يطلق أقواله بالغة الشدة، بالغة الصدمة، والتي لا يمكن إصلاحها بشكل مقصود. وهو يصف جرائم حرب فظيعة وكأنها لا شيء ويرسم نبوءات أبوكليبتية
أخروية وابتسامة على شفتيه. وهو يمنح المتمعن إحساسا بأن هذا الرجل العاصف والذي فتح بيديه “صندوق باندورا” الذي يتعذر على الحركة الصهيونية حتى الآن مواجهة ما خرج منه، ويتعذر عليه مواجهة التناقضات الداخلية فيه وفينا جميعا.
اغتصاب، مجازر، ترانسفير
– في الشهر المقبل، يا بني موريس، ستصدر بالانكليزية الطبعة الجديدة من كتابك حول نشأة مشكلة اللاجئين. من الذي سيفرح أقل من هذا الكتاب، الاسرائيليون أم الفلسطينيون؟
– “الكتاب الجديد هو سيف ذو حدين. وهو يستند الى وثائق كثيرة لم تكن متوافرة لي عندما كتبت الكتاب السابق ومعظمها من أرشيف الجيش الاسرائيلي. وما يتبدى من المواد الجديدة هو أنه وقعت مجازر اسرائيلية عام 1948 أكثر مما ظننت في الماضي. وقد فاجأني وقوع عمليات اغتصاب كثيرة. وفي شهري نيسان أيار أعطيت لوحدات الهاغاناه أوامر عملياتية جاء فيها صراحة أن عليها؟ اجتثاث القرويين وطردهم وتخريب القرى نفسها. وبالمقابل يتبين ان الهيئة العربية العليا أصدرت هي والمستويات الفلسطينية الوسطى سلسلة أوامر لإخراج الاطفال والنساء والشيوخ من القرى. وهكذا، يعزز الكتاب من جهة التهمة الملقاة على الجانب الصهيوني، ولكنه من جهة اخرى يثبت ان قسما كبيرا من عمليات ترك القرى تمت بتعليمات من القيادة الفلسطينية ذاتها”.
– وفق استنتاجاتك الجديدة، كم عدد عمليات الاغتصاب الاسرائيلية التي جرت عام 1948؟
– “حوالى دزينة. في عكا اغتصب أربعة جنود شابة وقتلوها وأباها. في يافا اغتصب جنود كرياتي شابة وحاولوا اغتصاب أخريات. وفي هونين في وسط الجليل اغتصبوا فتاتين وقتلوهما. وهناك حالة اغتصاب أو اثنتين في طنطورة، وحالة اغتصاب في كولا. أما في قرية أبو شوشة فتم اغتصاب أربع أسيرات، واحدة منهن اغتصبت مرارا. وهناك حالات أخرى. وفي الغالب كان الاغتصاب يتم على يد أكثر من جندي واحد. وكان الاغتصاب يتم غالبا لفتاة فلسطينية أو اثنتين. وفي قسم كبير من هذه الحوادث كانت القضية تنتهي بالقتل. وحيث ان المغتصبين والمغتصبات لا يحبون الإبلاغ عن هذه الحوادث، ينبغي الافتراض ان دزينة أعمال الاغتصاب التي عثرت عليها ليست كل القصة. وهذا هو طرف جبل الجليد”.
– وفق استنتاجاتك، كم عدد المجازر التي نفذها الاسرائيليون عام 1948؟
– أربع وعشرون. وفي قسم من الحالات يجري الحديث عن إعدام أربعة أو خمسة أشخاص، وفي قسم آخر يتعلق الأمر بقتل سبعين أو ثمانين أو مئة. وفضلا عن ذلك هناك الكثير جدا من حالات القتل الاعتباطي. يرون عجوزين يسيران في الحقل، فيطلقان النار عليهما. يجدون امرأة في قرية مهجورة فيطلقون النار عليها. هناك حالات كالتي وقعت في قرية الدوايمة حيث دخل رتل الى القرية وهو يطلق النار من كل أسلحته ويقتل كل من يتحرك.
“غير أن الحوادث الأشد خطورة هي التي وقعت في الصليحة (70 80 قتيلا)، ودير ياسين (100 110 قتلى)، اللد (250 قتيلا)، الدوايمة (مئات) وربما في أبو شوشة (70). وليست هناك قرائن قاطعة على مجزرة كبيرة في الطنطورة ولكن وقعت هناك جرائم حرب. ووقعت في يافا مجزرة لم تكن معروفة حتى الآن. وكذلك الحال في عرب المواسي في الشمال. وكانت نصف هذه المجازر جزءا من عملية حيرام: الصفصاف، الصليحة، الجش، عيليون، عرب المواسي، دير الأسد، مجد الكروم، سعسع. وشهدت عملية حيرام تركيزا شاذاً لحوادث إعدام الناس على الجدران أو قرب آبار بشكل منظم.
“ولا يمكن للأمر أن يكون صدفة. كان هذا نمط عمل. وعلى ما يبدو فإن العديد من الضباط الذين شاركوا في العملية فهموا ان أوامر الطرد التي تلقوها تسمح لهم بفعل هذه الافعال من أجل تشجيع السكان على الخروج الى الطرقات. والواقع أنه لم تجر معاقبة أي شخص على أعمال القتل هذه. لقد أسكت بن غوريون الموضوع، وغطى على الضباط مرتكبي المجازر”.
– ما تقوله لي هنا، كما لو بشكل عابر، أنه كانت هناك أوامر بالطرد عموما وصراحة في عملية حيرام؟
– “نعم. أحد الاكتشافات في الكتاب هو أنه في 31 تشرين الأول 48 أصدر قائد الجبهة الشمالية موشيه كرميل أمرا مكتوبا لوحداته بتسريع طرد السكان العرب. وقام كرميل بذلك فورا بعد زيارة بن غوريون لقيادة الجبهة الشمالية في الناصرة. ولا ريب عندي في أن الأمر صدر عن بن غوريون. بالضبط مثلما أن أمر طرد السكان من مدينة اللد، والذي يحمل توقيع اسحق رابين، صدر فورا بعد زيارة بن غوريون لهيئة أركان عملية داني”.
– هل ما تقوله هو أن بن غوريون كان مسؤولا بشكل شخصي عن سياسة مقصودة ومنهجية للطرد الجماعي؟
– من نيسان 1948 وبن غوريون يحث على الترانسفير. وليست هناك أوامر صريحة ومكتوبة منه، كما ليست هناك سياسة مرتبة، ولكن هناك أجواء ترانسفير. الترانسفير كان محمولا في الجو، والقيادة كلها كانت تفهم أن الحديث يدور عن ذلك. وكبار الضباط فهموا المطلوب منهم. وتحت قيادة بن غوريون نشأ إجماع حول الترانسفير”.
– هل كان بن غوريون من دعاة الترانسفير؟
– بالتأكيد. كان بن غوريون من دعاة الترانسفير. لقد فهم أنه لن تقوم دولة يهودية إذا كانت بداخلها أقلية عربية كبيرة ومعادية. ليست هناك دولة كهذه. لا يمكنها ان تبقى”.
– وأنا لا أسمعك تدين ذلك.
– لقد كان بن غوريون على حق، ولو لم يفعل ما فعله لما قامت الدولة. ينبغي ان تكون هذه المسألة واضحة. ويستحيل التهرب منها. فمن دون اقتلاع الفلسطينيين لم تكن لتقوم هنا دولة يهودية.
بفضل التطهير العرقي
– كنت، يا بني موريس، طوال عشرين سنة تبحث في الجانب المظلم من الصهيونية. وأنت خبير في فظائع عام 1948. فهل تبرر في نهاية المطاف كل ذلك؟ هل تؤيد الترانسفير عام 1948؟
– “ليس ثمة تبرير لأعمال الاغتصاب. ولا تبرير للمجازر. هذه جرائم حرب. ولكن في ظروف معينة فإن الطرد لا يشكل جريمة حرب. وأنا لا أعتقد أن عمليات الطرد عام 48 كانت جرائم حرب. إذ ليس بوسعك ان تقلي عجة من دون ان تكسر البيض. يجب عليك ان توسخ يديك”.
– ولكن الأمر يتعلق بقتل الآلاف من الناس. وتدمير مجتمع كامل؟
– مجتمع ينهض لقتلك يجبرك على تدميره. عندما يكون الخيار هو بين أن تدمر عدوك أو يدمرك فمن الأفضل أن تدمره.
– ثمة شيء مثير للصدمة في الهدوء الذي تقول به ذلك
– إن كنت تتوقع ان أنفجر في البكاء، يؤسفني أنني خيبت أملك. لن أفعل ذلك.
– إذن، عندما يقف هناك قادة عملية داني وينظرون الى الرتل الطويل والفظيع لخمسين ألف مطرود من اللد يسيرون الى الشرق، أنت تقف معهم؟ أنت تبرر أفعالهم؟
– إنني بالتأكيد أفهمهم، أفهم دوافعهم. ولا أعتقد أنهم أحسوا بوخز الضمير، ولو كنت مكانهم لما شعرت بوخز الضمير. فمن دون هذا العمل لم يكونوا لينتصروا في الحرب ولم تكن الدولة لتقوم”.
– أنت لا تستنكر فعلهم من الناحية الاخلاقية؟
– لا
– لقد قاموا بعملية تطهير عرقي
– هناك ظروف في التاريخ تنطوي على تبرير للتطهير العرقي. وأنا أعلم ان هذا المفهوم مطلق السلبية في الحوار في القرن الحادي والعشرين، ولكن حيث الخيار بين التطهير العرقي وبين إبادة شعب، إبادة شعبك، فأنا أفضل التطهير العرقي.
– وهذا كان الوضع في عام 1948؟
– كان هذا هو الوضع. هذا ما واجه الصهيونية. لم تكن الدولة اليهودية لتقوم من دون اقتلاع السبعمئة ألف فلسطيني هولاء. لذلك كانت هناك ضرورة لاقتلاعهم. لم يكن هناك مناص من طرد هؤلاء السكان. كانت هناك ضرورة لتطهير الجبهة الخلفية، وتنظيف مناطق الحدود وتنظيف المحاور الرئيسية. كانت هناك ضرورة لتنظيف القرى التي كانت النيران تطلق منها على قوافلنا ومستوطناتنا”.
– ولكن مصطلح “التنظيف” فظيع
– أعرف أنه لا يبدو جميلا، ولكنه المصطلح الذي استخدموه آنذاك، وقد تبنيته من كل وثائق 1948 التي أغرق فيها.
– أقوالك صعبة على الأذن وعسيرة الهضم. تبدو كما لو أنك من دون قلب
– إنني أتعاطف مع الشعب الفلسطيني الذي اجتاز مأساة صعبة، وأتعاطف مع اللاجئين أنفسهم. ولكن اذا كانت الرغبة في إقامة دولة يهودية هي رغبة مشروعة فإنه لم يكن هناك خيار آخر. إذ كان من المستحيل إبقاء طابور خامس كبير داخل البلاد. وفي اللحظة التي تعرض فيها اليشوف على أيدي الفلسطينيين وبعد ذلك من جانب الدول العربية لم يكن هناك خيار سوى طرد السكان الفلسطينيين، اقتلاعهم أثناء الحرب.
وعليك ان تتذكر أن الشعب العربي حظي بقسم كبير من الكرة الارضية. ليس بفضل مؤهلاته ومزاياه الكبيرة، وإنما لأنه احتل وقتل وغير دين المحتلين طوال أجيال. وفي النهاية هناك للعرب اثنتان وعشرون دولة. ولم تكن للشعب اليهودي أية دولة. لم يكن هناك أي سبب في العالم لأن لا يمتلك دولة واحدة. ولذلك من ناحيتي، فإن الحاجة لإقامة هذه الدولة في هذا المكان تتغلب على الظلم الذي وقع على الفلسطينيين عبر اقتلاعهم.
– ومن ناحية أخلاقية هل تسلّم بهذا العمل؟
– نعم. وحتى الديمقراطية الاميركية الكبرى لم يكن بوسعها ان تحقق من دون إبادة الهنود الحمر. هناك حالات يبرر فيها الخير الشامل، النهائي أعمالا صعبة ووحشية تجري في المسار التاريخي.
– وهذا يبرر في حالتنا عملية الترانسفير؟
– هذا ما ينتج عن ذلك.
– وتتعايش مع ذلك؟ مع جرائم حرب؟ مجازر؟ الحقول المشتعلة والقرى المدمرة في النكبة؟
– ينبغي وضع الأمور في نصابها. الحديث يدور عن جرائم حرب صغيرة. وبالاجمال إن أخذنا كل أعمال المجازر والاعدام عام 1948 فإنها تصل الى ثمانمئة قتيل. ومقابل المجازر التي نفذت في البوسنة فإن هذا رقم تافه. ومقابل جرائم الحرب التي اقترفها الروس ضد الألمان في ستالينغراد فإن هذه لعبة. عندما تأخذ بالحسبان أنه جرت هنا حرب أهلية دموية، وأننا فقدنا نسبة في المئة من السكان، تجد أننا تصرفنا بشكل جيد جدا”.
ظروف الطرد القادم
– لقد جرى لك شيء مثير للاهتمام. ذهبت للبحث بشكل انتقادي في بن غوريون والمؤسسة الصهيونية ولكنك في نهاية المطاف تماثلت معهم. وأنت متصلب بكلامك بالضبط مثلما كانوا متصلبين في أفعالهم.
– من الجائز أنك على حق. وبسبب أنني بحثت عميقا في الصراع، اضطررت لمجابهة أسئلة عميقة جابهها هؤلاء الرجال. وقد فهمت الاشكالية التي واجهتهم وربما أنني تبنيت قسما من عالم مفاهيمهم. ولكنني لا أتماثل مع بن غوريون. وأعتقد أنه اقترف خطأ تاريخيا جسيما عام 1948. ورغم أنه فهم القضية الديموغرافية والحاجة الى إقامة دولة يهودية من دون أقلية عربية كبيرة، إلا أنه خلال الحرب تراخى. وفي النهاية فشل”.
– لست واثقا أنني فهمت كلامك. أنت تقول ان بن غوريون أخطأ عندما طرد عربا أقل من اللازم؟
– إن كان قد قام بعمليات الطرد فمن الجائز أنه كان من المفروض أن يكمل العمل. وأنا أعلم ان هذه أقوال تصدم العرب والليبراليين ورجال الاستقامة السياسية. ولكن إحساسي هو أن هذا المكان كان سيكون أهدأ وأقل معاناة لو حسمت هذه القضية. ولو أن بن غوريون عمد الى إجراء عملية طرد كبيرة ونظف الارض كلها، كل أرض اسرائيل، حتى نهر الاردن. ومن الجائز انه لاحقا تبين ان هذا كان خطأه القاتل. لو أنه قام بعملية طرد كاملة لا جزئية لكان جلب الاستقرار لدولة اسرائيل لأجيال عديدة”.
– يتعذر عليّ تصديق ما أسمعه
– إن كانت نهاية القصة ستكون سيئة من وجهة نظر اليهود، فإن سبب ذلك يعود الى ان بن غوريون لم يكمل الترانسفير عام 1948. لأنه أبقى مخزونا ديموغرافيا كبيرا ومتفجرا في الضفة وغزة وداخل اسرائيل نفسها.
– لو كنت مكانه لطردت الجميع؟ كل عرب البلاد؟
– لست رجل سياسة. وأنا لا أضع نفسي مكانه. ولكن كمؤرخ أقرر أن خطأ وقع هنا. نعم. إن عدم إكمال الترانسفير كان خطأ.
– واليوم؟ هل تؤيد الترانسفير؟
– إن كنت تسألني عما إذا كنت أؤيد الترانسفير وطرد العرب من الضفة الغربية، غزة وربما الجليل والمثلث فإنني أقول لك ليس الآن. وأنا لست على استعداد لأكون شريكا في مثل هذا العمل. في الظروف الحالية هذا امر غير أخلاقي وغير واقعي. والعالم لن يسمح بذلك. العالم العربي لن يسمح، وهذا سيدمر المجتمع اليهودي من الداخل. ولكنني على استعداد للقول انه في ظروف اخرى، ظروف ابوكليبتية (اخروية) يمكن ان تحقق خلال خمسة الى عشرة اعوام، بوسعي رؤية عمليات الطرد. ان توفر سلاح نووي حولنا أو وقع علينا هجوم عربي شامل وحالة حرب على الجبهة حيث يقوم العرب في الجبهة الخلفية بإطلاق النار على القوافل الذاهبة للجبهة، فإن أعمال الطرد ستكون معقولة تماماً. ومن الجائز انها ستكون إلزامية”.
– وطرد عرب اسرائيل ايضا؟
– إن عرب اسرائيل هم قنبلة موقوتة، وانزلاقهم نحو فلسطنة كاملة حولتهم الى امتداد للعدو في داخلنا. ومن حيث القدرة فإنهم طابور خامس، ديموغرافي وأمني على حد سواء ويمكنهم تقويض الدولة. وهكذا اذا وقعت اسرائيل مرة اخرى في وضع تتعرض فيه لخطر وجودي كالذي كان عام 48، يمكن ان تضطر للعمل مثلما فعلت آنذاك. واذا هوجمنا بأيدي المصريين (بعد ثورة إسلامية في القاهرة) والسوريين وأطلقت صواريخ كيماوية وبيولوجية على مدننا وفي الوقت ذاته قام الفلسطينيون بتوجيه الضربات لنا في المؤخرة، فبوسعي رؤية وضع الطرد. هذا يمكن ان يحدث. إن كان الخطر على اسرائيل وجودياً فإن الإبعاد يغدو مبرراً.
المرض النفسي الفلسطيني
– لست متصلباً فقط، وإنما متشائم جدا ايضا. لم تكن دوما على هذا النحو.
– نقطة التحول عندي جاءت بعد عام ألفين. كما انني لم أكن قبل ذلك متفائلا جدا. والواقع انني دوما كنت أصوت للعمل او ميرتس او شلي، وفي عام 88 رفضت الخدمة في المناطق وأودعت السجن، ولكن على الدوام كانت عندي شكوك في نوايا الفلسطينيين. وحولت أحداث كامب ديفيد وما جاء في أعقابها هذا الشك الى يقين. وعندما رفض الفلسطينيون اقتراح باراك في تموز عام 2000 واقتراح كلينتون في كانون الاول عام 2000، فهمت انهم غير مستعدين للقبول بحل الدولتين. انهم يريدون كل شيء، اللد وعكا ويافا”.
– إن كان الامر كذلك فإن كل عملية اوسلو كانت خاطئة، وثمة فشل أساسي في كل فلسفة حركة السلام الاسرائيلية.
– كان يجب تجربة اوسلو. ولكن ينبغي ان يكون واضحا اليوم انه من وجهة نظر فلسطينية كانت اوسلو خديعة، عرفات لم يغد سيئا، عرفات ببساطة خدعهم. وهو لم يكن ابداً على استعداد لتسوية ومصالحة.
– هل يريد عرفات إلقاءنا في البحر؟
– انه يريد إعادتنا الى أوروبا، الى البحر الذي جئنا منه. وهو حقا يرى فينا دولة صليبية ويفكر في السابقة الصليبية وينتظر لنا نهاية صليبية. ولي ثقة ان لدى الاستخبارات الاسرائيلية معلومات جازمة تثبت ان عرفات في أحاديثه الداخلية يتحدث بجدية عن خطة المراحل. ولكن المشكلة ليست عرفات وحسب. فكل النخبة الوطنية الفلسطينية تميل للنظر إلينا كصليبيين وتتحرك وفق خطة المراحل. لذلك فإن الفلسطينيين ليسوا على استعداد للتنازل بشكل صادق عن حق العودة. وهم يحتفظون بهذا الحق كأداة يهدمون بواسطتها الدولة اليهودية عندما يحين الوقت. وهم لا يتحملون وجود دولة يهودية ليس على ثمانين في المئة من الارض، ولا حتى على ثلاثين في المئة. وفي نظرهم فإن الدولة الفلسطينية يجب ان تقوم على كل أرض اسرائيل.
– إن كان الامر كذلك فلا فائدة من حل الدولتين. وحتى ان جرى التوقيع على اتفاق سلام فإنه سينهار خلال وقت قصير.
– من الناحية الايديولوجية أؤيد حل الدولتين. فهذا هو البديل الوحيد لطرد اليهود او طرد الفلسطينيين أو الدمار الشامل. ولكن من الناحية العملية، في الجيل الحالي، فإن هذه التسوية لن تصمد. وعلى الاقل 4030% من الجمهور الفلسطيني وعلى الاقل 4030% من قلب كل فلسطيني لن يقبلوا بها. وبعد هدنة قصيرة سيعود الارهاب وتستأنف الحرب”.
– تشخيصك قاس جداً.
– وهو قاس لي ايضاً. في الجيل الحالي لن يحل السلام. ولن يكون الحل. وقدرنا ان نعيش على حرابنا. وأنا كبير السن ولكن بالنسبة لأولادي هذا أمر بائس على وجه الخصوص. ولا أعرف ان كانوا سيرغبون في مواصلة العيش في مكان لا امل فيه. وحتى ذا لم تدمر اسرائيل فإن الحياة الجيدة والعادية لن تكون هنا في العقود المقبلة”.
– أقوالك ليست رداً مفرطاً على ثلاث سنوات قاسية ومركزة بالارهاب؟
– إن التفجيرات في الحافلات والمطاعم هزتني فعلا. لقد دفعتني لفهم عمق الكراهية نحونا. لقد دفعتني لأفهم ان العداء الفلسطيني، العربي والاسلامي للوجود اليهودي هنا يقودنا الى حافة الخراب. ولا أرى في العمليات أفعالا فردية. انها تعبر عن الارادة العميقة للشعب الفلسطيني. وهذا ما يريده معظم الفلسطينيين. انهم يريدون ان يحدث لنا جميعاً ما حدث للحافلة”.
– ولكن مسؤولية هذا العنف وهذه الكراهية ملقاة ايضا علينا. الاحتلال، الحواجز، الحصار. وربما النكبة ذاتها.
– لست بحاجة لان تقول ذلك لي. لقد أجريت أبحاثاً في التاريخ الفلسطيني. وأنا أفهم جيداً أسباب الكراهية. الفلسطينيون اليوم يردون علينا ليس فقط بسبب حصار البارحة وانما كذلك بسبب النكبة. ولكن هذا ليس تفسيراً كافياً. لقد تم قمع شعوب افريقيا على أيدي القوى العظمى الاوروبية بشكل لا يقل عن قمعنا للفلسطينيين، ومع ذلك انت لا ترى إرهاباً افريقيا في لندن، باريس وبروكسل. لقد قتل الالمان منا أكثر مما قتلنا نحن من الفلسطينيين، ومع ذلك لا نقوم بتفجير الحافلات في ميونيخ ونيرنبرغ. وهكذا ثمة هنا شيء آخر، أعمق، مرتبط بالاسلام والثقافة العربية”.
– هل تحاول الزعم ان الارهاب الفلسطيني ينبع من مشكلة ثقافية عميقة؟
– هناك مشكلة عميقة في الاسلام. فهو عالم ذو قيم مغايرة. عالم ليست فيه لحياة الانسان القيمة ذاتها الموجودة في الغرب، حيث ان الحرية والديموقراطية والانفتاح والابداع أمور غريبة لديه. انه عالم يحلل دم كل من لا ينتمي الى معسكر الاسلام. كما ان مسألة الانتقام هامة هنا. والانتقام يحتل مكانة مركزية في الثقافة القبلية العربية. لذلك ليست للناس الذين يقفون قبالتنا وللمجتمع الذي يرسلهم اية روادع أخلاقية. واذا حصلوا على سلاح كيماوي او بيولوجي او نووي فسوف يستخدمونه. ولو يفلحون فإنهم سينفذون ايضا عملية إبادة شعب.
– أنا أصر. ان قسماً كبيراً من المسؤولية عن كراهية الفلسطينيين ملقى عليناً ايضا. وانت نفسك أظهرت لنا ان الفلسطينيين مروا بنكبة تاريخية.
– صحيح. ولكن عندما يأتون لمعالجة قاتل منتظم ليس من المهم كثيراً البحث عن سبب تحوله الى قاتل كهذا. المهم هو اعتقال القاتل أو إعدامه.
– أوضح لي هذه المقارنة. من هو القاتل هنا؟
– البرابرة الذين يريدون قتلنا. الناس الذين يرسلهم المجتمع الفلسطيني لتنفيذ العمليات، وبطريقة ما ايضا المجتمع الفلسطيني نفسه. حاليا هذا المجتمع هو في حالة قاتل منتظم. انه مجتمع مريض جداً، من الناحية النفسية، ويجب التعامل معه كما يعامل أفراد هم قتلة منتظمون.
– ما معنى ذلك؟ ما العمل صباح الغد؟
– يجب محاولة معالجة الفلسطينيين. ومن الجائز انه مع مر السنين ستساعد إقامة الدولة الفلسطينية في هذا العلاج. ولكن في هذه الاثناء، والى ان يتم ايجاد العلاج، ينبغي احتواؤهم من أجل ان لا ينجحوا في قتلنا.
– تسييجهم بسياج؟ فرض الحصار عليهم؟
– ينبغي ان يقام لهم شيء مثل القفص، أنا أعرف ان هذا يبدو فظيعا. وهذا فعلا وحشي. ولكن لا خيار آخر. هناك حيوان مفترس يجب احتجازه بهذه الطريقة أو تلك.
محاربة البرابرة
– بني موريس، هل تحولت الى يميني؟
– لا، لا. ما زلت أحسب نفسي يسارياً. وما زلت أؤيد من حيث المبدأ دولتين لشعبين.
– ولكنك تؤمن بأن هذا الحل لن يدوم. إنك لا تؤمن بالسلام.
– حسب تقديري لن يكون هناك سلام.
– اذن ما هو الحل عندك؟
– في هذا الجيل، وكما يبدو ليس هناك حل، يجب الوقوف بالمرصاد، وحماية الدولة قدر الامكان.
– الجدار الحديدي؟
– نعم. الجدار الحديدي هو وصف جيد. الجدار الحديدي هو السياسة الاكثر معقولية للجيل القادم. انه ما اقترحه جابوتينسكي وتبناه بن غوريون. وفي الخمسينيات جرى سجال بين بن غوريون وشاريت. وزعم بن غوريون ان العرب لا يفهمون سوى لغة القوة، وان القوة وحدها هي التي ستقنعهم بوجودنا هنا. وكان على حق. وهذا لا يعني انه لا حاجة الى الدبلوماسية. تجاه الغرب وتجاه ضميرنا ايضا، من المهم ان نتطلع الى حل سياسي. ولكن في نهاية الامر ما ينتزع استعدادهم لقبولنا هي القوة وحدها. فقط إقرارهم بعدم أهليتهم لهزيمتنا.
– كيساري انت تبدو لي يمينيا جداً.
– إنني أحاول ان أكون واقعيا. وأنا أعرف ان هذا لا يبدو دوماً كاستقامة سياسية ولكنني أظن ان هذه الاستقامة السياسية اصلا تسمم التاريخ. انها تشوش قدرتنا على رؤية الحقيقة. وأنا ايضا ألبير كامي. لقد كان يعتبر يساريا وأخلاقيا، ولكنه في تعامله مع المسألة الجزائرية وضع وطنه قبل الاخلاق. وبالنسبة لي فإن المحافظة على شعبي أكثر أهمية من المفاهيم الاخلاقية الكونية.
– هل أنت محافظ جديد؟ ام انك تقرأ الواقع التاريخي الحالي بمفاهيم هنتنغتون؟
– أعتقد انه يحدث هنا صدام بين الحضارات. وأعتقد ان الغرب اليوم يشبه الامبراطورية الرومانية في القرن الرابع، الخامس والسادس: البرابرة يهاجمونها ومن الجائز انهم سيدمرونها.
– هل المسلمون هم البرابرة؟
– أعتقد ان القيم التي ذكرتها آنفاً هي قيم البرابرة. التعامل مع الديموقراطية، الحرية، الانفتاح… والموقف من حياة الناس. وبهذا المعنى هم برابرة. والعالم العربي بصورته القائمة الآن بربري.
– وحسب رأيك هل هؤلاء البرابرة الجدد يهددون حقاً روما أيامنا؟
– نعم. ان الغرب اشد قوة ولكن ليس من الواضح ان كان يعرف كيف يصد هذه الموجة الكارهة. ان ظاهرة تغلغل المسلمين بمجموعهم في الغرب والاستيطان فيه تخلق تهديداً داخلياً خطيراً. وقد مرت روما بمثل هذا الوضع