التغلغل الصهيوني في أفريقيا
المجد-
رغم التعليقات الساخرة التي يحظى بها وزير الخارجية الصهيوني أفيغدور ليبرمان من بعض المعلقين في وسائل الإعلام الصهيونية بسبب أسلوبه الفظ في التعامل مع زعماء الدول الأجنبية وبشكل يتنافى مع طبيعة عمله كمن يقف على رأس الدبلوماسية الصهيونية، إلا أن الكثيرين في المقابل يكيلون له المديح مؤخراً لأنه جعل على رأس أولوياته مواصلة اختراق إفريقيا، لدرجة أن صحافياً مخضرماً مثل معلق الشؤون الاستخبارية في صحيفة هارتس شبهه بوزيرة الخارجية ورئيسة الوزراء الأسبق غولدا مائير التي عكفت منذ الخمسينات والستينات من القرن الماضي على إيلاء أفريقيا أهمية خاصة وحرصت على زيارة معظم دولها غير العربية في أفريقيا. ومن الواضح أن تحرك ليبرمان المكثف في أفريقيا حالياً يستهدف بشكل أساسي منطقة "القرن الأفريقي" على وجه الخصوص التي تضم كلاً من كينيا والسودان وأثيوبيا وأرتيريا والصومال.
وعلى الرغم من أن وزارة الخارجية هي التي تتولى بشكل نظري المسؤولية عن تنسيق السياسات الصهيونية في أفريقيا، فإنه مما لا شك فيه أن الطرف الذي يلعب الدور المركزي والأساسي في هذه المنطقة هو جهاز الموساد الذي يعمل بالخفاء، ويحافظ على ممثليات ناشطة في الكثير من العواصم الأفريقية، كما كشفت هآرتس، مؤخراً.
وتفويض الموساد بالقيام بهذا الدور له علاقة بشكل أساسي بالدور التآمري الذي يسم دائماً تحرك هذا الجهاز، سيما على صعيد العمل على المس بالأمن القومي للدول العربية في أفريقيا أو المطلة على البحر الأحمر. فهناك علاقة وثيقة وأكيدة بين تعزيز العلاقات بين أثيوبيا ودولة الكيان بشكل غير مسبوق مؤخراً وبين تهديد حكومة أديس أبابا بإعادة توزيع مياه النيل بشكل يمس بشكل خاص بكل من مصر والسودان.
وتشير المصادر الصهيونية إلى أن العلاقة بين تل أبيب وأديس أبابا أخذت في الآونة الأخيرة منحى درامتيكيا، أظهرت فيه القيادة الصهيونية مرونة كبيرة، تمثلت بالتخلي عن حليفها السابق أسياس أفورقي مقابل الظفر بتعزيز العلاقة مع النظام الأثيوبي، وتمثل تعزيز العلاقة بين الجانبين في التوقيع على العديد من صفقات السلاح بين دولة الكيان وأثيوبيا وبشروط ميسرة، إلى جانب تقديم خدمات في مجال التدريب، حيث تتواجد وحدات من المدربين العسكريين الصهاينة تعكف على تدريب القوات الأثيوبية. وهناك من يربط بين التعاون الصهيوني مع أديس وأبابا ونجاح أثيوبيا في تحقيق انتصارات على أرتيريا في المواجهات التي دارت بين الجانبين قبل عامين.
يتوجب ألا يتوقع أحد أن تتبرع دولة الكيان أو أثيوبيا بالكشف عما يحاك بينهما ضد مصر من وراء الكواليس. فليبرمان الذي يدير السياسة الخارجية في أفريقيا هو نفسه الذي هدد يوماً بقصف السد العالي، بينما يصر وزير المالية يوفال شطاينتس على اعتبار مصر "دولة عدو" على الرغم من توقيع اتفاقية السلام.
توظيف دولة الكيان لعلاقاتها مع الدول والحركات التي تناصب الدول العربية العداء في المس بالأمن القومي العربي وإلهاء الدول العربية المؤثرة وإشغالها بمشاكل ثانوية وذلك لتقليص مدى تدخلها في الصراع العربي الصهيوني يعتبر جزءا أصيلاً من العقيدة الأمنية الصهيونية.
وقد وثق هذا التوظيف بشكل نادر شلومو نكديمون مستشار رئيس الوزراء الصهيوني الأسبق إسحاق شامير الذي أشار إلى أن دولة الكيان دأبت منذ الخمسينات من القرن الماضي على توثيق علاقاتها مع الأكراد في شمال العراق من أجل تعزيز توجهاتهم الانفصالية لضرب الدولة العراقية والتأثير على أولويات الدولة العراقية. وبنفس المنطق عززت دولة الكيان علاقاتها مع نظام الشاه، وكذلك مع تركيا بقيادة العسكر والعلمانيين لعدائهما المستحكم تجاه الدول العربية. في نفس الوقت فإن قصة التحالف الصهيوني مع موارنة لبنان ماثلة للعيان، واعتماد تل أبيب عليهم في ضرب المقاومة الفلسطينية والحركات الوطنية اللبنانية. ويشير نكديمون في كتابه "حلف الأطراف" (periphery alliance)، أن نفس المنطق أملى على دولة الكيان إقامة علاقات وثيقة مع الحركة الشعبية لتحرير السودان التي تطالب بانفصال السودان، حيث حرصت دولة الكيان على مد قوات الحركة بالسلاح والعتاد الحربي، علاوة على تدريب عناصرها.
في نفس الوقت فإنه ليس سراً أن دولة الكيان شجعت اللوبيات اليهودية في الولايات المتحدة على وضع الأجندة التي ترفعها بعض نخب الأقباط في المهجر على جدول أعمال كلاً من الكونغرس والإدارة الأمريكية، وتحديداً الدعاوى المتمثلة في التضييق على الأقباط وعدم المساواة في التعامل معهم، وغيرها من الملفات.
وكانت علاقة رئيس أرتيريا أسياس أفورقي قوية جداً بدولة الكيان، وقد أغرت تل أبيب أفورقي بالعمل على تهديد الأمن اليمني عندما أقنعته باحتلال الجزر اليمنية في البحر الأحمر، مستغلاً التفوق العسكري الذي ضمنه السلاح الذي زودته دولة الكيان؛ لكن كما أشرنا سابقاً فإن السياسة الصهيونية في أفريقيا تقوم على المصالح فقط، فعندما وجدت دولة الكيان أن مصلحتها تقتضي تعزيز علاقتها مع أثيوبيا خصم أفورقي اللدود، على حساب أرتيريا لم تتردد في لفظ أفورقي.
من هنا فإن التجربة التاريخية تدلل على أن الدولة الصهيونية تقف بهذا الشكل أو ذلك خلف التحرك الأثيوبي، مدفوعة بحسابات مصلحتها الإستراتيجية، فتل أبيب معنية بإلهاء مصر وإشغالها بنفسها، على اعتبار أنها ستظل تمثل أكبر تحدي إستراتيجي لدولة الكيان، كما يجاهر بذلك نائب رئيس الوزراء ووزير التهديدات الإستراتيجية في حكومة نتنياهو الجنرال موشيه يعلون، والذي شغل في الماضي منصب رئيس هيئة أركان الجيش.
لكن اهتمام دولة الكيان بالقرن الأفريقي لا ينحصر فقط في محاولة التأثير على الأمن القومي المصري من خلال محاولة المس بحصة مصر من مياه النيل، بل يتعداه إلى تحقيق أهداف صهيونية كبيرة، حيث أن القرن الأفريقي يشرف على باب المندب، الذي تمر من خلاله 20% من التجارة الخارجية لدولة الكيان. ومما لا شك فيه أن تصاعد دور تنظيم القاعدة والجماعات المرتبطة به في هذه المنطقة وتحديداً في الصومال زاد من حاجة دولة الكيان إلى تواجد في المنطقة، وتدخل أثيوبيا كدولة مقربة من دولة الكيان في الشأن الصومالي أسهم في تسهيل المهمة على الدولة الصهيونية، وهناك مؤشرات على أن دولة الكيان وظفت الاحتلال الأثيوبي لأجزاء واسعة من السودان في منح الموساد مواطئ قدم في هذه الدولة الممزقة، خشية أن يتحول عناصر التنظيم للمس بالسفن الصهيونية التي تبحر في المحيط الهندي والبحر الأحمر، خاصة في ظل ازدهار عمل القراصنة الصوماليين.
ولا يخفي مدير عام وزارة الخارجية الصهيونية الأسبق تسفي بار قلق دولة الكيان من ازدياد معدلات انتشار الإسلام في أفريقيا على اعتبار أن هذا العامل يثير القلق بشكل أساسي بالنسبة لتل أبيب، حيث يفترض بار أن هذا التطور يفضي إلى بيئة سلبية للمصالح الصهيونية، وهو ما يفاقم من حاجة دولة الكيان لتواجد مكثف وعميق في المنطقة. وعندما تتوجه الدولة الصهيونية لأنظمة الحكم في الدول التي تعاني من صراعات على خلفية وقبلية، يكون أحد أطرافها المسلمون، فإنها تذكر هذه الأنظمة أنه بالإمكان الاعتماد على تجربتها في مجال مواجهة الحركات الإسلامية. من هنا نجد إن دولة الكيان بذلت جهوداً كبيرة في التقارب مع نيجيريا على وجه الخصوص ووقعت معها على صفقة لتزويدها بالسفن الحربية.
لكن هناك قائمة كبيرة من المصالح الصهيونية في أفريقيا، تعمل على ضمان عدم المس بها، وتتمثل في:
1- إحكام السيطرة على صناعة التنقيب على النفط في أفريقيا، حيث تتولى شركات صهيونية بغطاء أوروبي التنقيب عن النفط في عدد من الدول الأفريقية، وقد تعززت رغبة دولة الكيان في استغلال احتياط النفط الأفريقي على أثر التقارير التي أصدرتها الأمم المتحدة والتي تحدثت عن أن الاحتياط الأفريقي من النفط يصل إلى أكثر من 80 مليار برميل.
2- تستغل دولة الكيان المواد الخام التي يتم استخراجها من الدول الأفريقية، سيما اليورانيوم، حيث أنه في بعض الأحيان يتم هذا الاستغلال بعلم الدول الأفريقية، وأحياناً تستغل دولة الكيان ضعف بنية الدولة والرقابة في الدول الأفريقية وتقوم بالبحث عن اليورانيوم واستخراجه دون أن أن تضع الدول الأفريقية في صورة ما تقوم به. ففي كتابه " بقوة العلم "، كشف العالم النووي الصهيوني أرئيل بخراخ النقاب عن أن دولة الكيان قامت بسرقة اليورانيوم من دول أفريقية دون علمها، بحجة أن علمائها كانوا يقومون بأبحاث جيولوجية في صحاري هذه الدول.
3- تعتبر أفريقيا سوق واسع للمنتجات الصهيونية، سيما في مجال الصناعات الحربية.
4- تحتكر دولة الكيان الكثير من الصناعات والمرافق الاقتصادية في عدد من الدول الأفريقية، فعلى سبيل المثال تحتكر الشركات الصهيونية صناعة الغذاء في أثيوبيا.
5- تعتبر صناعة وتصدير الماس أحد أهم مصادر الدخل القومي الصهيوني، حيث أن جميع الماس يتم استخراجه من الدول الأفريقية.
وتاريخياً استخدمت دولة الكيان أدوات متعددة في تعزيز علاقاتها مع الدول الأفريقية، فتارة عبر تصدير الخبرات الفنية في مجال الزراعة، وتارة في مجال التدريب العسكري وتأهيل الألوية العسكرية المسؤولة عن حماية أمن الرؤساء الأفارقة وتقديم العلاج الطبي سراً لأرباب الحكم في المستشفيات الصهيونية، واستيعاب الطلاب الأفارقة في الجامعات الصهيونية. وفي بعض الأحيان لم تتردد دولة الكيان في المساهمة في تدبير انقلابات عسكرية في بعض الدول الأفريقية، وكما يؤكد الصحافي يوسي ميلمان معلق الشؤون الاستخبارية الصهيونية فإنه في حكم المؤكد إن الموساد أسهم في حدوث انقلابين في كل من أوغندا وزنجبار.
أن الذي يصيب المرء بالاحباط هو حقيقة أن دولة الكيان تتحرك في القارة الأفريقية دون أن تواجه أي مقاومة عربية على الاطلاق، حيث أن الدول العربية تحرص على عدم استغلال الكثير من الأدوات التي بإمكانها استخدامها ليس منع التغلغل الصهيونية في أفريقيا، بل حتى لا تواصل دولة الكيان توظيف هذا التغلغل في المس بالأمن القومي العربي. فكلمة سر مشروع دولة الكيان مقابل فراغ عربي.
صالح النعامي