الوعي اللغوي.. والقضية الفلسطينية
في كتابه: فلسطين: سلام لافصل عنصري Palestine: Peace Not Apartheid ـ ، يذكر الرئيس الأمريكي السابق، جيمي كارتر، في معرض حديثه عن أجواء اتفاقية كامب ديفد، أن رئيس الوزراء الإسرائيلي، مناحيم بيغن، كان يحرص أثناء كتابة مسودة الاتفاق أن لا توضع أي كلمة دون أن يرجع إلي القواميس اللغوية والقانونية حتي يتأكد من أن اللغة لن تضيع حقوق شعبه. بينما كان الرئيس السادات لا يعبأ بصياغة النص. ويضيف كارتر: كان السادات يفوضني شخصيا أو أحد مساعديه لاختيار صياغة النص ولايقف كثيرا عند التفاصيل . لقد كان بن غوريون يدرك حساسية اللحظة وأهمية اللغة في عالم لايرحم المهملين ولا السذج، فكان يعصر دماغه في ليالي كامب لمصلحة شعبه قبل أن يوقع علي أي سطر. أما السادات، فكان يجهل خطر المصطلحات اللغوية ومزالقها، أو كان ـ إذا أحسنا الظن ـ لا يبالي ولا يقدر اللحظة التاريخية التي يُختصر فيها مستقبل أمة داخل عبارات لفظية.
وقد عانت القضية الفلسطينية كثيرا من تلاعب الإسرائيليين بالألفاظ وتطويعها لمصلحتهم، إلا أن اللوم لا ينصب عليهم ـ فذلك حقهم ـ إنما اللوم كله علي أولئك الذين يناضلون ويفاوضون باسم الشعب الفلسطيني، ولا يدركون خطر الألفاظ ودقة المصطلحات ومزالق اللغات، ويذهبون إلي طاولات التفاوض وهم عزل من أهم أسلحتهم: الوعي اللغوي. ولعل قرار الأمم المتحدة 242 أكبر نموذج لخداع اللغة. فقد صدر قرار عن الأمم المتحدة بتاريخ 22 تشرين الثاني (نوفمبر) 1967 قرأه الفلسطينيون والعرب علي أنه يأمر إسرائيل بالانسحاب من الأراضي التي احتلتها عام 1967 . لكن الحقيقة أن هذا هو نص القرار بالعربية، أما نصه بالإنكليزية ـ وهو النص المعتمد ـ فيقضي بالانسحاب من أراضٍ احتلت في الصراع الأخير بصيغة النكرة. وبناء علي ذلك، فإذا انسحبت إسرائيل من أي شبر من غزة أو سيناء، تكون قد نفذت قرار الأمم المتحدة 242.! فنص القرار حرفيا هو: Withdrawal of Israel Armed forces from territories occupied in in the recent conflict
وهكذا تضيع حقوق أمم نتيجة غياب أداة التعريف لا غير!
ويبدو أن القضية الفلسطينية لا تخسر نتيجة الخيانة اللغوية من الأعداء فحسب، بل يوجد بين الفلسطينيين من يستخدم اللغة سلبا ضد شعبه، وحتي أنه يفعل ذلك عن عمد في بعض الأحيان. إذ يذكر مدير سي آي أيه السابق، جورج تينيت، في كتابه: في قلب العاصفة : (At The Center Of The Storm) أن دينيس روس ذهب ليجتمع بمحمد دحلان في قطاع غزة، وعرض عليه خطة أمنية عليه أن يطبقها حتي يقبل الإسرائيليون أن يستأنفوا المفاوضات. لكن دحلان رفض المسودة وقال بأن الفلسطينيين سيصفونه بالخائن إن قبلها . فما كان من دنيس روس ـ وهو المتمرس بعقلية قادة المنطقة ـ إلا أن اقترح عليه أن يغيرها لغويا ويحتفظ بنفس المضمون فوافق دحلان علي الفور.
وهنا يكمن الإشكال: فدنيس روس يريد أن يخدع الفلسطينيين لغويا، فيريهم أنه قد غير مضمون الاتفاقية، لكن الحقيقة أن النص هو الذي تغير، ويوافق دحلان فورا علي خديعة قومه كذلك، وكأنه يوافق علي أن تظل القضية الفلسطينية ضحية لألفاظ ومصطلحات الأذكياء.
أما أنا فقد صعقت عندما قرأت هذه المعلومة، وتذكرت عبارة دالة لحكيم الصين كونفشيوس. فقد جاءه أحد طلابه وسأله: أريد أن أتعلم الحرية..ما ذا أفعل ؟. فرد كونفشيوس قائلا: تعلم اللغة.. تتعلم الحرية !.
من المؤسف حقا أن تكون وفود التفاوض الإسرائيلية مشكلة من لغويين وقانونيين وعلماء خرائط، ويتم اختيار أعضاء وفد التفاوض الفلسطيني علي أساس الولاء والحزبية فقط.
إن افتقاد الوعي اللغوي من أخطر الثغرات التي يمكن أن يدخل منها الخصم. ورحم الله محمد بن حزم فقد كان يقول: إذا قوي قوم قويت لغتهم..وإذا ضعفوا ضعفت لغتهم . ولعمري لقد ضعفت لغتنا وانهدت أركان وعينا اللغوي، حتي أصبحت أخطر قضية بين أيدينا ـ قضية فلسطين ـ تنقض عروة عروة نتيجة التخلف اللغوي .
ولعمري لقد صدق حكيم الصين: تعلم اللغة..تتعلم الحرية!