ليت كل أعدائنا مثل.. بوش!!
إن السوء الذي بدأ به بوش منذ رئاسته – بالنسبة لنا – لا ينسب إليه شخصياً بقدر ما يعزى لتغير المراحل وما استجد من فوارق التحديات واستبدال الأعداء.. ومن هنا فالخطاب الذي ألقاه في الكنيست الصهيوني لا يأتي في سياق التغيير في خطوط ومحددات وهوامش الموقف الأمريكي بقدر ما يحمل رسائل سياسية ودعائية واستعراض بائس وعنتريات كاذبة.. ولا ينبغي لأحد أن يكون متفاجئاً به لا من حيث المضمون ولا من حيث اللغة المستخدمة..
ولفهم ما قاله بوش في الكنيست الصهيوني ومعرفة في أي سياق يأتي من الضروري تذكر أن الكيان الصهيوني الذي يحتفلون بذكرى قيامه أصبح يعاني أوضاعاً وتحديات غير مسبوقة جعلت وجوده ذاته موضع شك بعد سلسلة الإفشال والتراجعات والهزائم التي مني بها، وخصوصاً بعد حرب صيف 2006 مع حزب الله الذي قصف الثلث الشمالي من الكيان بالصواريخ وهدد باستهداف الباقي وبعد أن طالت صواريخ حماس أكثر من 250 ألف مستوطن حول غزة أفقدتهم نسق الحياة العادية ورهنتهم للخوف ومن يعرف التركيبة النفسية والفكرية للعدو يعرف قيمة وخطورة أن يعيش المواطن الصهيوني في مثل هذا الخوف والتحسب.. وقد ضاعف هذا الخوف أن قادتهم وجيشهم لم يعودوا يمتلكون زمام المبادرة وفقدوا القدرة على اتخاذ القرار بشأن أعدائهم وأصبحت خياراتهم شبه يائسة بدليل التردد في حسم القرار بالنسبة لغزة وحركة حماس فيها.. ذلك دفع مليون وخمسمائة ألف منهم (قريباً من ثلث مجموع عدد السكان) يفكرون في الهجرة وجعل سبعمائة ألف آخرين يقيمون في – في الدول الغربية – معظم أيام السنة، وجعل أكثر من مائتين وخمسين ألفا يسجلون لأجل ذلك لدى السفارات الغربية.. وهذه إحصاءات منشورة في صحف العدو ويتحدثون عنها ليل نهار.. فكيف إذا تحدثنا عن توقف الهجرات القادمة من الخارج وعن المشكلات المستعصية في الجيل الثالث من شبابهم الذين لم يعيشوا أحلام العودة والحروب الكبيرة وتعطل عملية الاندماج والتطبيع وعن تآكل الشرعية الأخلاقية والثقافية لكيانهم والتحديات الديموغرافية إلى غيره مما يجعل هذا الكيان أبأس كيان وجعلهم يعتبرون ما يسمونه (حرب الاستقلال) أي حرب إقامة الدولة لا تزال لم تنجز بعد ستين سنة.. من هنا جاءت احتفالات الكيان هذا العام بقدر ما هي مختلفة عن الأعوام السابقة بقدر ما تشير إلى أزمته وخوفه وخوف العالم الغربي الذي صنعه وزرعه في بلادنا عليه.. فإذا كان هذا هو حال الكيان فإن ما قاله بوش في الكنيست وما وعدهم به من وعود شابتها الرعونة والمراهقة السياسية لن تزيد في عمر الكيان ساعة واحدة ولن تغير من حقيقة أنه يعاني – أقصد الكيان الصهيوني – من الإحساس بالتلاشي والهرم والفشل وبالتالي فلن يكون لهذه التصريحات أية قيمة على أرض الواقع خاصة وأن أمريكا لم تتوقف عن تقديم كل الدعم والمساندة له منذ وجد وهي بالتالي لا تملك جديداً أو مخبوءاً في ذلك.. إلا أن يكون قصد أنه سيأتي هو ودولته ليقاتلوا بدلاً عنه ويموتوا نيابة عنه؟ وهل سيقبل الشعب الأمريكي بذلك؟ وبالذات بعد ورطتهم في العراق وأفغانستان التي غيرت الكثير من قناعاتهم وثقتهم بأنفسهم تجاه احتلال بلاد الآخرين ومصادمة شعوبها..
هذا أمر لا بد من تدبره لمعرفة في أي سياق جاء خطابه، وهناك أمر آخر يجب رصده وتذكره وهو أن بوش يتوقع أن يكون آخر رؤساء أمريكا من عائلته بعد أن جر على نفسه وعليها (وهي عائلة سياسية) وجر على حزبه وعلى الشعب الأمريكي خسارات وأدخلهم في مغامرات وتورطات سيعانون منها لأجيال وسيدفعون ثمنها مرات ومرات ما جعل الشعب الأمريكي ينفضّ عنهم وقد أثبتت استطلاعات الرأي في بلاده أنه – أي بوش – الرئيس الأدنى شعبية في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية.. فهو اليوم في آخر عهده وولايته وهذا حاله وهو معني بالتقرب من الكيان الصهيوني واللوبي اليهودي الذي يسيطر على الرأي العام الأمريكي ويحركه فهو يحاول بذلك ترميم ما انهدم من ثقة الشعب الأمريكي به وبعائلته – وهو شعب ثقافته في الأغلب الأعم يهودية تلمودية متطرفة -.
ولكن الذين كتبوا لبوش خطابه انتبهوا لشيء وغابت عنهم أشياء كما يقال.. فقد انتبهوا لحاجة الكيان للتطمين والدعم اللفظي وتصدير رسائل هنا وهناك وانتبهوا وانتبه بوش لنفسه ومصلحته ولكنهم في خضم نشوة تدفق الأدرينالين في العروق اليهودية التلمودية التوراتية للرئيس نسوا الكثير.. فقد أحبط الرئيس وأيأس حلفاءه (أو عملاءه) في المنطقة وأكد على أن المفاوضات عبث وأن العشم في أن تنجز المشروع الوطني الفلسطيني ليس أكثر من (عشم إبليس في الجنة) فكان خطابه من حيث لا يدري تحريضاً عليهم.. ونسي أنه بحملته على حماس وحزب الله وتحريضه على سوريا وإيران قد أكسبهم مكاسب هائلة تعلي منهجهم وتجذرهم في وجدان المنطقة وشعوبها وترجح كفتهم ونهجهم بقدر ما ستكون إدانة ووصمة وفضيحة لخصومهم من الطائفيين والمهرولين في الهوى الأمريكي لقناعة الناس بأن من تعاديه أمريكا هو الولي الوفي والوطني الأبي، وتخلّى في خطابه تماماً (أو لنقل استقال) من تقمص دور الوسيط الذي يجب أن يمتلك الحد الأدنى من النزاهة والموضوعية، وعندما أضاف (إسرائيل) للشعب الأمريكي واعتبرها معه370 مليوناً يكون قد سهل على علمائنا الأجلاء وقادتنا الفضلاء ومفكرينا وسياسيينا الأوفياء أن يصنفوها في البينين من الأعداء ووضع العرب أمام مسؤولياتهم التاريخية ورفع عنهم الحرج من قطع العلاقات معها والبحث عن بدائل لوساطتها..
ستؤتي تصريحات هذا المراهق ثمارها الاستراتيجية – التي لم يقصدها – لصالح المفاصلة الكبرى وتبديد الاستغفال وإيقاظ الوعي الإسلامي العام وعند ذلك سيقول المتضررون المخادعون كان قصده كذا ولم يقصد كذا وكذا.. ولربما يقولون كانت زلة لسان وسيقولون لقد تراجع في شرم الشيخ عما قال في الكنيست وسيحاولون إخفاء وتدليس القناعات الحقيقية تجاه مضمون هذا الخطاب وسيقولون من عند أنفسهم ما لم يقله وأقول : إن زلات لسان أو عقل هذا الرجل هي زلات فقط من حيث أنه لا يحسن إخفاء ما يجب إخفاءه ولكنه لم يخطئ في توصيف الحالة الولائية بين دولته وبين الكيان والعدائية بينها وبيننا.. ونحمد الله على أنه قال ما قال فقد نبه الساهي وأيقظ النائم وحذر الغافل واستعدى الأمة كلها وفضح طبيعة الصراع وهوية المعركة فهنيئاً لنا بهديته – وإن لم يردها وهنيئاً لنا بتجلياته ونسأل الله أن يكثرها، ونتمنى أن يمنّ الله تعالى (علينا) بأن يكون كل رؤساء أمريكا والغرب مثله يضيفون كل يوم سبباً جديداً للالتفاف حول المقاومة ويفضحون ما خفي من جاهليتها ويسلطون الضوء على ما فسد من ضميرها ولا يحسنون التزويق والتدليس..
آخر القول : إن خطاب بوش من حيث وعوده للعدو ليس أكثر من مجرد كلام إنشائي تطميني واستعراض بائس من زعيم في النزع الأخير من ولايته وعنتريات مفضوحة من كل اتجاه.. ولكنه على اعتبار أن الوعي هو أحد أهم مميزات ومقومات معركتنا مع اليهود في فلسطين ومع الغرب الظالم الداعم لها هو فاتحة خير وسيكون له ما بعده في وعي الأمة وحسم خلافات كثيرة بددت جهدها وأذهبت ريحها.. فيا ليتنا نسمع كل يوم مثل هذا الخطاب ويا ليت كل زعماء أمريكا والغرب مثل بوش ولهم زلات كزلاته.