عبرة في قصة

16 ساعة .. مهمة في كرم تسور (الحلقة الثالثة)

المجد – خاص

أنظر بهذا المنظار، “وكان منصوبا أعلى السلسلة يرصد ويكشف المغتصبة
في الجبل المقابل”، ثم تابع: أترى البيت المميَّز باللون البنّي والبرج المثبّت
في رأسه إضاءة حمراء؟ قلت: نعم، قال: أترى تقاطع الشارع أمام البيت والجنديّين أمامه؟
قلت: نعم. قال: هذان للحراسة الليلية لا يفارقان المكان ويلازمان باب البيت فاحفظ الصورة
جيداً.

عُدنا للجلسةِ فقال الأمير:

البيتُ هو هدفنا، بعد الرصد نتوقع أنه استراحة للجنود الصهاينة، يدخله
كل ليلة من خمسة عشر إلى عشرين جندياً، عليكم أن لا تنشغلوا بشيء قبل الاقتحام مهما
حدث، ولو تسنّت لكم أهدف أخرى، فإن أصبتم الهدف، فلكم حرية اتخاذ القرار من بعد، واعلموا
أنكم استشهاديّون، فلا رجعة بعد، إلا ما خرج عن الإرادة. ساعةُ الاقتحام: الساعة الثانية
صباحاً، الخطة البديلة في حال فشلت العملية وقررتم الرجوع؛ كل واحد سيحمل رقماً لهاتف
نقّال مشفَّر، استخدماه عند الضرورة القصوى فقط، وهذه بطاقة اتصال لهاتف عمومي، فإذا
اتصلتما فأوجزا الفكرة في أقل من خمس عشرة ثانية. هل هناك استفسار؟؟ صمتْنا جميعاً،
فأكمل: أبا قتادة، سيشاركك المهمة أبو القسّام، يكفيك أن تعرف كنيته، وإياكما أن يدفعكما
الفضول للتعارف أكثر من ذلك، أمامكما مشوار طويل فتجهّزا.

أخذ أبو القسّام بإعدادي، فلبستُ الِّلباس العسكري، وجعبةً كانت مجهَّزة
بكل ما يلزم، ثم سلّمني بندقيةً من نوع (كلاشنكوف) كانت قد لازمتني في جميع مراحل التدريب،
وتجهّز صاحبي أيضاً.

هممْنا بالوداع، فاصطففْنا، وتولّت حرارة العناق فصل الخطاب فمضوا بالألم،
ودلفنا بشوق، كانت الساعة تحوم في العاشرة والنصف ليلاً، كان الثوب الأسود يغطّي عورة
الوادي، ولا أكاد أبصر خطوتي، والصمت يزيد الأمر تعقيداً، وهذا الذي لا أعرفه، من يكون،
ومن أي كوكب نزل؟ يبدو أنه كبير في السن، لحيته لا تكاد تبين، ومع هذا فهي أطول من
شعر رأسه، كنت أفكر في حديث آنس به، لأحمله ويحملني، فهذا الغموض قطعةٌ مركّبة من الليل،
هممتُ أن ابتدأه، لكنه ابتدأني بالحديث:

ـــ مشوارٌ طويل.

ـــ نعم، معبّدةٌ بالأشواك والصخور، وشديدةُ الانحدار.

ـــ علينا السير بحذر، فنحن غرباء عن المكان.

ـــ ألا تعرف شيئاً عن مسارنا؟ وموقعنا؟ المنطقة مظلمة وأجهل مكاننا تماماً.     

ـــ كلا!!  ولكن أترى عن يمينك
تلك الأنوار الخافتة البعيدة هناك.

ـــ نعم: أراها بصعوبة.

ـــ تلك بلدة حلحول، وعن الشمال خلف الجبل بلدة (بيت أمّر)، وهي أقرب للمغتصبة
من حلحول.

ـــ فقلت:

ـــ أحبُّ أن أتعرف إليك، ولكن!!     

ـــ لا عليك، قد نتعرّف على بعضنا قريباً ولكن على الأرائك!

ابتسمتُ! وقد أسهب في الحديث عن الجنة، نعم، الجنة، فهي النسب الوحيد الذي
يجمعني به في هذا المكان المظلم، وهي الحلقة الأجمل التي تؤلّف النفوس المؤمنة في أواصر
إخوانية أعزُّ من رابطة القربى، سرّى عني وحملَني و حملته، ثم قال:

ـــ أتحفظ شيئاً من النشيد؟

ـــ نعم.

ـــ هات، أسمعني.

ـــ فرحتُ أنشدُ له رائعةَ المجلة الإسلامية.

النورُ ملءُ عيونـــــــــــي       
والحورُ مِلكُ يمينــــــــي

وكالملاكِ أغنّـــــــــــــــي         في جنةٍ وعيونــــــــــــي

فسعد وطرب، وكسر حاجزاً من حواجز الرهبة التي أقامها المجهول، وضاعفَها
عدم معرفتي به، فقال: زدني، فأنشدتُ لأبي راتب شهيرتَه:

ماضٍ، وأعرفُ ما دربي وما هدفي … والمــوت يرقص لي في كلِّ منعطفِ

مضيت وكأني لم أعش من قبل يوماً، فلا ماضي ولا ذكريات، فقط عينٌ ترنو إلى
المغتصبة، ونفسٌ تتوق إلى الجنة، وقبضةٌ تطمع أن تنال من المحتل، وقد أخذت المغتصبة
بالاقتراب شيئاً فشيئاً، هي تريني أسلاكاً ودروعاً وكاشفات، كأنّها قلعةٌ محصَّنة،
وأنا لا أراها إلا مصعدَ العروج إلى الجنة، وكل همي أن يسدّد الله رميَنا ويحقّق هدفَنا.

وصلْنا الخطَّ المتوسّط بين الجبلين والذي سنتّخذه مساراً للصعود، فجلسْنا
في ظل صخرة وقد أجهدَنا تعنّت الجبل، وحِدّة منحدراته، وقسوة طِباعه، كان الليل قد
انتصف واحلولك، في بطن الوادي الموحش.

سألتُ صاحبي:

ـــ كان يبدو عليك التعب الشديد، وكنت تكثر من الاستراحة، فماذا دهاك؟

قال: قل: آمين!

فقلت: آمين!

فقال: حرمه الله عافيته من حرمَني عافيتي وأعاق سيري إلى الله.

لم أفهم مقصده، ولم أعرف قصّته، غير أن الألم يعتصر قلبه، وفاض الأسى والحزن
من كلماته، ثم استلقى، فاستأذنته لأقضي وِتراً من ركعتين خفيفتين، فأذن لي.

مضت نصف ساعة قبل رجوعي إليه، فوجدته في سِنة من النوم، فاتّكأت بجانبه
فاستيقظ، وقال:

ـــ يبدو أني غفوت قليلاً.

ـــ من الجيد أن تنام في ساعة كهذه.

ـــ كم مضى من عمرك أبا قتادة؟

ـــ عشرون عاماً! وأنت؟؟

ـــ سأبلغ الأربعينَ قريباً، فاسمع مني أحدّثك.     

ـــ تفضّل.

ـــ حين ترجع من العملية….

ـــ قاطعتُه قائلاً: عن أيِّ رجوع تتكلّم؟

ـــ اسمع ولا تقاطع!     

ـــ نعم، ولكنّا تعاهدنا على الشهادة معاً أو نرجع معاً، فماذا جدَّ لتخاطبَني
كأني راجعٌ    وحدي؟! وهل نسيتَ حديث الجنة؟؟

ـــ لا لم أنس… وكأنه غضبَ فقررتُ الإنصات، ودرجَ في الكلام.

ـــ حين ترجع من العملية تنزل من هنا، وأشار إلى خطٍّ في الجبل، تسمع صوتاً
كثيفاً من الرّصاص، لا تكترث ولا تلتفت، فقط واصل السير، ولا تعبأ بالإنارات الضوئية،
ولا تخف، أنت ترى بنور الله وهم في ظلمات لا يبصرون، وحين تصل الوادي، خذ طريقك من
اليمين فإن وصلت البيت فسلّم على زوجتي وأولادي وقل لهم : إني أحبهم كثيراً!

أنهى كلامه فاستراح، غير أن قلبي انقبض، ولفّني همٌّ ثقيل وإحساس بالخوف
من المجهول….

انتفضَ من مكانه معلناً أن الساعة قد شارفت على الواحدة بعد منتصف الليل،
وقال لي: تهيّأ، علينا أن نصلَ القمّة قبل الساعة الثامنة.

ـــ وقبل أن نصعد قلت له: أحب أن نغيّر المسار.

ـــ ولماذا؟

ـــ بصراحة، أخشى من الاختراق الأمني، فنقع في كمين، مع ثقتي بإخواني.

ـــ وماذا تقترح؟      

ـــ أن نصعد من نقطة معاكسة للمسار (180) درجة.     

أطرق قليلاً ثم قال: على بركة الله.

غيّرنا اتجاه الصعود، واقتربنا من ساعة الحسم، وما فارقْنا الذكر والدعاء،
وحديث الجنة، ومشاهد من سيرة الصحابة، وقد رافقنا ذاك الصحابي الذي تلقّى السهم بصدره،
ودمه يثقب منه وهو ينادي “فزت ورب الكعبة”، وخبيب وعاصم وابن أبي رواحة وجعفر،
فيحدونا الشوق، ويحثّنا على السير، كانت بذكرهم تشحذ الهمة، وتسمو الروح، ويغشى النفس
السكينة والطمأنينة، والرغبة العارمة في اللقاء، كنا نحس بالحنين إليهم، وكأننا نعرفهم
جيداً، فهم أحبابُنا، وهوى كل نفس حيث حلَّ حبيبُها.

مضت الساعة مسرعةً، ووصلنا إلى نقطة في ظل صخرة، أسفل الطريق الترابية
التي تحيط بالمغتصبة، وقد شُقّت لدوريات الحراسة، كان علينا الانتظار لعشرة دقائق أخرى،
نتفحّص المكان، فهذه دقائق خطرة جداً، فإن تجاوزنا الحدود والأسلاك الشائكة، فسيسهل
علينا ما بعد ذلك، ثم إن موعدنا لم يحن بعد، صرتُ أهمس همساً خفيفاً: أتعلم أني أحسُّ
بالجوع الشديد، فمن الساعة السابعة صباحاً خرجتُ إلى الجامعة ولم أذق طعاًما إلى هذه
الساعة! تبسّمَ ابتسامةً كأنها تنطق بلسان الحال، أهذه ساعةٌ يُشتهى فيها الطعام؟ فرفع
عن حزامه، وأخذَ بصرّة سوداء فتحَها، ومدَّها إليَّ قائلاً:

 ـــ تفضّل، هذه تداوي لسعةَ الجوع
وتُخمد ثورته.

مددتُ يدي، وإذا هي حبّات من التمر، تناولت ثلاث حبات، وقدمتها له فأخذ
واحدةً يتبصّرها ويقلّبها بين يديه مبتسماً، شدّني تصرّفه، فقلتُ قبل أن أتناول تمرتي:

ـــ مالكَ تقلّبها وتبتسم؟

ـــ أفكّر في ذلك الصحابي الذي رمى التمر في ساحة المعركة.

ـــ تبسمتُ وقلت: وبعد؟

ـــ بماذا سبقَنا الصحابة، ومالنا لا نجاريهم؟

فقلتُ مداعباً: كُلْ.. كُل، أمامك مهمة صعبة، تحتاج فيها للعضلات مع الإيمان،
لا وقتَ للعواطف!

نظرَ إليَّ بحزم وقال: بخٍ بخٍ، أما بيني وبين الجنة إلا أن أقتحم تلك
الأسلاك، لا آكلها إلا في الجنة شهيداً بإذن الله، بخٍ بخٍ إن عشت حتى آكلها.. إنها
لحياةٌ طويلة! ثم أرجعَ التمرات، وإني لأعلم أنه بحاجة إليها فوق حاجتي.

هزّني من الأعماق صدقه، و أحيا فيَّ ثورة شوق عارمة، وأحسست بنفسي تثبُ
من المكان فخراً بما صنع، وضع يده على كتفي، وانتصب واقفاً:

ـــ الآن!! أيقظْ كلَّ حواسّك وأرِ الله حُسنَ صنيعك.

شددتُ على يده ومضينا نزحف تارةً ونهرول أخرى، فكانت التوفيقات الربانية
لنا بالمرصاد، وإذا مساحةٌ من الأسلاك تهدّمت نتيجة التوسعات الجارية في الطريق وقد
دفنت تحت التراب، والكاشف المثبَّت على عمود الكهرباء قد عشعشت فيه الطيور فوفر لنا
حجاباً من العتمة ساترا، والموقع مستور عن برج المراقبة. ولو قُدّر لنا أن نصعد من
المسار الأول لما وجدنا من هذا شيئاً.

تسمّرنا في المكان لدقائق، نتفحّص فيه الأجواء، كان الهدوء مسيطراّ، والصمت
متمكّناً من كل حي، والليل يخفي تحته الأسرار، أشار لي بمراقبة البرج، وحماية ظهره،
وإسناده، فتقدم ووثب، فلحقته، وهكذا سرنا باجتياز البيوت نسرق المسافات، خفية وبخفّة
وحذر، يسندني وأسنده، ويلحقني وألحقه، حتى وصلنا إلى أقرب بيت لا يبعد عن هدفنا عشرة
أمتار، كنا نرى الحارسين بوضوح شديد، كانت الساعة تمام الثانية صباحاً.

دقيقةُ صمتٍ ساكنة في ظل البيت، تخطّفتني الوحشة من كل جانب، عشرة أمتار
هي المسافة الفاصلة بين الحياة والموت..

الى اللقاء في الجزء الاكثر اثارة … الحلقة الرابعة ..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى