عبرة في قصة

مهمة في كرم تسور .. ماذا يوجد في البيت (الحلقة الرابعة)

المجد- خاص

عشرة أمتار هي المسافة الفاصلة بين الحياة والموت، قلّبت صفحة الذكريات،
وإذا الدنيا بهزلها وجدّها وأفراحها وأتراحها تمرّ من ذاكرتي بسرعة رصاصة تنطلق في
عشرة أمتار.

لم يتجاوز عقرب الدقائق خطوتين حتى انحدرت سيّارتان وحطّتا أمام المبنى،
عند الحارسين. تسارعتْ نبضاتُ قلبي، وأحسستُ أن هناك خطأً ما، هاتان السيّارتان لم
يأتِ على ذكرهما الرّاصد، التفتَ إليَّ صاحبي مستنكراً، أحرّك شفتي بهمس لا يُسمع،
فالمسافةُ قريبة، وكلمةٌ مسموعةٌ تعني رصاصةً قاتلة، وكأنّه فهم ما رميتُ إليه، أو
لعله كان يفكّر بمثل ما أفكر به، فهمس بكلمتين وسقطت الثالثة في ممر الهواء بين فمه
وسمعي: “هناك دائما مفاجآت!”.

جلس الستة الصهاينة على كراسيهم مدجّجين بالسلاح، وأحضر سابعهم شراباً،
أدركْنا أن الجلسة قد تطول، فأسندْنا ظهورَنا للحائط، وجلسنا على الأرض، ومرَّ بخاطري
صوتُ مدرّبي وهو يقول: “الجندي الجيّد هو الذي يتوقع الأسوأ”، كان هذا في
آخر لقاء تدريبي، قبلها بيوم وصلتني رسالة مميزة بمضمونها، لم أعهد مثلها قط، كان مما
كُتب فيها: “أحضر معك لباسك العسكري و لثاماً، وحين تصل موقعك المعتاد، سيتركك
مرافقك، تصرّف بسرعة، بدّل ملابسك، وتلثّم، وافتح الحقيبة السوداء وترقّب”.

أخذت الخيالات من عقلي كلَّ مأخذ، ومحت يومي توهّمات لم يقع منها شيء،
وجاء الغد بالخبر اليقين، وكانت حقائقه تزخر بتخوّفات الأمس، بدّلت ملابسي، وتلثّمت،
وتناولت من الحقيبة السوداء أل (إم 16) المفكَّكة، فركّبتُها حتى أصبحت جاهزةً لأيِّ
طارئ، اتخذتُ ساتراً وترقّبت بحذر، و إذا بملثّمان ومدرّبي يقتحمون المكان مسلّحين،
فرددت التحية بالعناق، فقال أبو إسلام:

– سنجري لك اختباراً لعملية اقتحام وهمية، فكن عند ثقتي بك، لم أكن يومها
أعلم أنني أجهّز للعملية، ولم نكن نعدّ لها بعد، فقلت متسائلاً:

ــ إن شاء الله، ولكن لِمَ هذا الاختبار؟

ــ سأُعلمكَ لاحقا، أما الآن فخذ هذه المخازن الثلاثة، وانظر عن  يمينك أعلى التلة، هناك، وضعت لك شارة، صوِّب نحوها
بعشر رصاصات فقط، ثم انطلق متسلِّلا من جهة اليمين بمحاذاة الصخور حتى تصل بعد قطعتين
من الأرض إلى أرض مشجَّرة على بعض أشجارها شارات، تخيل أنك تقتحم موقعاً وهذه الشارات
أهداف أمامك، عليك إصابتها جميعاً، تصرف بحكمة وذكاء، ونحن سنراقبك في كل خطواتك من
الجهة المقابلة، أنجز مهمتك، وسنلتقي هنا في نفس المكان.

كان يوماً ممتعاً، شعرت فيه بالإنجاز لما رأيت الرضا في ابتسامة مدربي
وقد اجتزت الاختبار بامتياز!

وكزَني أبو القسام بيده، وكأنه علم أني خارج المكان والزمان، فأرادني أن
أبقى معه، فهمس: طال مكوثهم أكثر مما توقعت.

تنهدت بأنفاس كتمها الوقت، الدقيقة تمر كأنها نفس يتعثر في صدر رجل يحتضر،
لم أكن قبل هذه الدقائق أُدركُ حقيقة أن الوقت هو الحياة! الصمتُ مُطبِق، والسكون عمَّ
وطمّ، كانت حركة الحياة قد توقفت إلا مجرى الدم في العروق وصوت القلب النابض وخزّان
الأعصاب الذي أوشك أن ينفجر. كانت قدمي تتحرك وكأنها غاضبة تصرخ بي: “تحرّك! لقد
أيستُ من الانتظار”، والرشاش يكاد أن يفرّ من يدي محتجّاً: “لقد ضجرتُ من
الصمت”. كل شيء فيَّ يحتج عليَّ، إلا عقلي؛ كان يقول لي تصبَّر، لا تتهوَّر، ألم
تسمع ما قاله أميرُك، لا تشتبك مع أحد قبل اقتحام الهدف، لا تفسد خطّتك بقلة الصبر.
وكأني أقول له: “ولكن المكان خَطِر، وقد ننكشف في أي لحظة، والوقت عدوُّنا وليس
في صالحنا”.

أما صاحبي فمرة يجلس، ومرة يرصد حركة الجنود، وكأني به يفرُّ من ضجر إلى
ضجر، ويشعر بكل ما أشعر به، مرّت نصف ساعة، بل ثماني مئة وألف ثانية، كل ثانية بيوم!!

أخذ الجنود بالتحرك، وانصرفوا مخلِّفِينَ الحارسَينِ مدرَّعَين بالحديد،
مدجَّجَينِ بالسلاح، وكأنهما مستعدان للحرب! اغتنمنا فرصة تمشِّيهما بعكس تواجدنا،
فتسلّلنا بحذر حتى وصلنا الهدف واتخذنا ناحيةً منه؛ على بعد خمسة أمتار من مدخله، حيث
الجنديّان على مقعديهما خلف ساتر.

هذه اللحظة كنا نرومُها منذ البداية، تباحثنا فيها طوال الطرق دون نتيجة،
فقد كانت الصورة ضبابية، أما الآن فقد اتّضحت الرؤية، وبدا الأمر أصعب مما توقعنا،
إذ كيف لنا أن نقتحم الموقع ونباغته دون الاشتباك مع الحارسين، وإطلاق النار يعني استيقاظ
الجنود داخل المبنى، وخطأ رصاصة واحدة في التصويب يعني فشل العملية.

أخذ الحارسان بالاختفاء للحظات ثم الظهور، وأخذتُ وأبو القسّام نضع (سيناريو)
سريعا للدخول للموقع، كان مما اقترحتُه ساعتها، أن استغلَّ لحظة اختفائهما فأنقضَّ
على الجنود في الداخل ويتبنّى صاحبي قتل الحارسين في حال اندفاعهما للمساندة، لكن هذا
لم يقنع أبا القسام.

بدأتُ أفقدُ أعصابي، وضاق بي المكان، وصرتُ أحسب على الساعة مدة غياب الجنديِّين،
فوجدتها بين دقيقة وعشر ثوان إلى دقيقة وعشرين ثانية.

وضعَ صاحبي يده على خاصرته وكأنه يتألم ثم قال: “أحتاج لشربة ماء”.
لم أكن أعلم أنه يعاني من التهابات حادة في الكِلى، فقلت له: تناول قنية الماء الموجودة
على ظهري.

أخرجَها لكنها كانت فارغة. قلت في نفسي هذه فرصة جيدة لتنفيذ خطتي في الاقتحام،
نظرت إليه وقلت: سأحضر لك الماء! همَّ الجنود بالتحرك كالعادة فأشرتُ إليه:

       – احمِ ظهري!

       – ولكن ما الذي تفعله؟

       – لا عليك، فقط احمِ ظهري.     

تحرّكَ الجنديّان وتحركتُ بسرعة وخفّة بمحاذاة الجدار الأمامي للبيت، كنت
أقترب من الباب المفتوح، لا وقت للتفكير، لا وقت للحسابات، لا تستطيع إلا أن تندفع
باتجاه الداخل ويدك على الزناد، اقتحمتُ الهدف بحواسّي الخمس، كانت الصدمة بالمرصاد
وعيني لا تصدّق ما ترى!.

الى اللقاء في الجزء الخامس بعونه تعالى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى