عبرة في قصة

16 ساعة .. مهمة في كرم تسور (الحلقة السادسة)

المجد- خاص

كنت مضطراً لترك الزاوية، فوقفتُ عنده، وتأكّدْنا أنها إصابةٌ خفيفة،
فقلتُ له: أحملُ في جعبتي كيسَ رصاص كان قد وضعه أبو أحمد في اللحظات الأخيرة قبل
أن نغادر الموقع.

تناولَ الرصاص، وعدتُ إلى زاويتي التي تبعد عنه ثلاثة أمتار فقط، وكان
قد أغفلَ زاويتَه ليملأ مخزن الرصاص.

اشتدَّ إطلاق النار، انهال عليَّ من كل ناحية حتى اضطرني للتراجع
خطوتين إلى الوراء، صرتُ على بعد خطوة من صاحبي، فالتفتُّ إليه لا أعلم ما صنع،
وإذ بجنديٍّ يقتحم علينا من وجهته كلمح البصر أو هو أسرع، كان آخر ما أشعر به
تناثر الحصى والتراب في وجهي وكأني قد فقدت وعيي فأُغشي عليَّ بغيبوبة لم تطل.

فتحتُ عيني على هدوء لم أعهده في نصف الساعة الأخيرة، سواد الليل تعبث
به الأضواء المتحركة على ظهور السيارات العسكرية، غامرني شعور بالحزن العميق وقلت
في نفسي: لم تُكتب لك الشهادة. خَدَرٌ يسري في جانبي الأيمن، وملابسي مصبوغةٌ
بالدم، ووجهي وشعري مليء بالتراب والدم أيضاً، لعلي قد أُصبت؟! فجسدي مُثقل، كأنه
قد تلقّفَ صخرة خرّتْ من السماء.

رفعتُ جنبي بلطف رفع الواثق أنه قد أصيب، فوقعت عيني على رأس صاحبي
وقد أثقل فخذي، حسبتُه في غيبوبة كما كنتُ أنا، كان مسجّىً وهو يحتضن قطعةَ سلاحه
كما يحتضن الحبيبُ حبيبَه، فأحببتُ أن أوقظه، فوضعتُ كفي الأيمن على رأسه،
فارتجعتْ وعادت مخضَّبةً بالدم؛ لقد استشهد.

انقبضَتْ نفسي، وفاضتْ حزناً على حزن، صرتُ أنظر إليه ثم أردُّ الطرف
إلى السماء وهو حسير، كسير، كأني أبصر ابتسامته وهو هازئ من الدنيا يسخر من عقل
المتكالبين عليها، أراه وأرى نفسي، وقد تُـقـبِّـل قُربانُه ورُدَّ قُرباني، وقد
أصبحتُ وحيداً فريداً على بُعد سلسلة من القيد، لا أرى الدنيا إلا زنزانةً أُغلق
بابُها، وأُطفئت أنوارُها.

بدأت أقيّم الوضع من حولي، تفقّدتُ الزاوية الأولى، على بعد عشرة
أمتار كان الجنود يتمترسون بناقلة جند مصفَّحة، والمشهد يتكرر عند الزاوية الأخرى،
وقع في نفسي أنهم سوف يقبضون علي، فأسندتُ ظهري على الجدار ولساني يبتهل بالدعاء
إلى الله أن يجعل لي مخرجاً، ويرزقني الشهادة ويجنّبني الأسر.

الوقت ينفد، ولا حلول ناجعة، ولا مجال لمواصلة الاشتباك، الثواني تمرّ
كأنها صخور تتزحزح عن جسد انهارت عليه، وفجأةً وقعَ في نفسي الانسحاب من الموقع،
وهذا خاطرٌ لم يقع لي من قبل، فأحسستُ بانشراحٍ في الصدر، وكأن الزنزانة قد أضاءت
من جديد.

عزمتُ أمري، وحدّدتُ وجهتي وانطلقت كالسهم، وأنا أردِّد: إلا متحرِّفا
لقتال أو متحيِّزا إلى فئة. كانت هذه الآية تواسيني كلما شعرتُ بذنب الانسحاب، فلا
أبالي إذن لو كانت الرصاصة في الظهر.

وفي عتمة الليل انزلقت قدمي عن صخرة مرتفعة، فأردتني على الطريق
الترابية، وقد ارتطم رأسي بالأرض وسُحقت أصابعي بين الحصى والسلاح، وانطلقت الثلاث
رصاصات فلم يعد السلاح بعدها إلا قطعةَ حديد، لا قيمة لها لانعدام الذخيرة؛ فوقعت
الكارثةُ الأكبر، وانكشف أمري، ولم أعدْ أسمعُ من حولي إلا صوتَ البنادق تأتي
فتفجِّر الصمت!

لم أملك إلا إلقاء نفسي ودحرجتها من القمة نحو الوادي، كجلمودِ صخرٍ
حطَّه السّيلُ من علٍ، دحرجةٌ لم تمكّني من الوقوف إلا للحظات متفرقة، حاولت أن
أتخلص من الجعبة التي لم يعد لها عمل إلا إعاقتي من الركض المتواصل، وقد سقط
السلاح من يدي عنوةً في سفح الجبل المدجَّج بالصخور والأشواك اللافحة.

لا أدري كيف وصلتُ قعر الوادي السحيق بهذه السرعة، ولكني وصلت، وصوت
الرصاص لا زال مدويّا يملأ الوادي أزيزه، توقفتُ بين أشجار الزيتون، شأخص ببصري
إلى القمة، أنظر إلى الكاشفات الضوئية، وقد غطّت الطريق الترابية، وكنت أقول
لنفسي، المسافة بيني وبينهم بعيدة، فعلى مَن يطلقون الرصاص؟؟ إذن هم لا يروني، ولا
يعرفون مكاني، صرتُ أفتّش في ساقي، وساعدي عن كسور في العظام جراء الدحرجة
المتهورة، فلم أجد، الحمد لله!

كانت كلمات أبي القسام ترنُّ بسمعي كأنه يقولها الآن، أو كأنه شاهدَ
كلَّ هذا الذي يحصل، قبل صعود الجبل.

نزعتُ قميصي العسكري المغمَّس بدم الشهيد، وعلّقتُه وسط زيتونة
جانبية، وبدأتُ أفكر بالخطوة القادمة، فأنا الآن في بقعة جغرافية مجهولة المعالم،
لا أعرف شرقها من غربها، وكحلة الليل تزيد الوضع سوءاً، لكن الشهيد دلَّني على
نقطة البداية: “حين تصل الوادي خذ طريقك من اليمين!”.

رحتُ أرسم لنفسي أهدافاً قصيرة، بدأتُها بالبحث عن مغارة ألتجئ إليها
حتى الصباح، وهرولتُ من اليمين على وقع الرصاص الذي لم يهدأ ساعةً من الليل، حتى
وجدتُ ضالتي، بيد أنه بدا لي أولُ إضاءة خافتة من بعيد، حتى أنها لا تكاد تُبين،
فقلت لنفسي: لا أزال قادرا على الركض، ما عليَّ إلا أن أصل إلى الضوء فلعلي أجد
عند أهله مأوى، أو قبساً يرشدني إلى طريق النجاة، فاتخذتُ قراري وألزمتُ نفسي،
وانطلقتُ بلا تردد.

ازداد الوضع سوءاً لما انهالت من السماء الإشارات الضوئية، حتى كأن
الليل زال فجأة وطلع النهار، لعلهم عرفوا موقعي، باتوا قريبين مني، أسمع أجهزة
الاتصالات اللاسلكية، ولكن لا خيار أمامي إلا المضي قدماً نحو الهدف دون الالتفات
إلى الوراء. وصرتُ أُلقي بجسدي على الأرض حتى تخفت الإضاءة قليلاً، ثم أنهض،
وهكذا…. كانت إضاءة البيت الخافتة من بعيد لا تزداد إلا خفوتاً، كلما اقتربتُ منها
ابتعدَت، فصارت هدفاً صعب المنال، حتى أيستُ منها وصار هدفي أن أتخلصَ من المطاردة
الضوئية.

اقتحمتُ أرضاً معروشةً بالعنب، حجبَتْ عني تكالب الأضواء، وقطعتُها
ماشياً، ثم صعدتُ إلى مثيلتها، وهكذا…، حتى وجدتُ نفسي عند أول بيت يبعد عن
الطريق المعبّدة عدّة أمتار، والمغتصبة بدت عن شمالي كأنها غاضبة، تودّ لو أنها
تشي بي وتدلّ علي.

حقّقتُ هدفي الثاني، ولكني لم أتوقّف، فأنا قادرٌ على الركض على الرغم
من الإجهاد الشديد، أوجدتُ هدفاً جديداً، قلتُ لنفسي: بما أني لا أستطيع تحديد
موقع، والمغتصبة عن شمالي، فسأسلك كل طريق من جهة اليمين، حتى أبتعد ما استطعت عن
دائرة الأحداث.

صارت المنازل تتكاثر، وأنا أهرول، ولكن دون هدف ولا جهة، فقط أنا
أبتعد، فأصبحتُ وسط المجمّعات السكنية، وهذا يزيد الأمر تعقيداً، ويضاعف المخاطرة،
هذه المجمّعات أقرب منطقة على المغتصبة، وفي أي لحظة سيقتحمها الجيش الصهيوني، وقد
يعلن منع التجول فيها، كما أن موعد أذان الفجر قد حان، وحركة الناس ستبدأ، وقد
تسحق كل ما حقّقتُه نظرةُ عميلٍ ترصدُني على حين غرّة، ولن يبذل جهداً كبيراً
ليتعرّف علي، فلا زلتُ أرتدي بنطالي العسكري الملوَّن بالدم والتراب، وأنا غريبٌ
عن المنطقة أيضاً.

على طول الطرق التي قطعتُها لازمَني الذِّكر والدعاء، لكني الآن بأمس
الحاجة لتكثيف الرجاء، فكلُّ الطرق أُغلقت أمامي. كنت أرى التيسير في كل مرحلة
قطعتُها، كانت التوفيقات الربانية حليفتي عند المفترقات الصعبة، فلا بدّ من طريق
ستوصلني إلى بر الأمان بإذن الله.

ظللتُ هائماً على وجهي، تائهاً بلا دليل، في بقعة من الأرض، مسكونة
بالليل، هي الصحراء في عين الغريب عنها، وأصبحتُ في ظلماتٍ ثلاث: ظلمةُ الليل،
وظلمةُ التيه، وظلمةُ الأفكار. وأطبقَت السماءُ على الأرض، والهواجس تروح
وتجيء،  وأضحى اعتقالي على مرمى التفاتةٍ
من عين جاسوس، لم يغسل وجهه بعد.

ولكنّ عين الله بالمرصاد، ولطف الله في مئذنةٍ تتلو القرآنَ وتهيِّئ
النفوس لاستقبال الصلاة، فسرَّي ذلك عني، وابتهجَتْ نفسي المطمئنّة رغم الخطوب،
ووثبَتْ همتي تبحث عن المسجد متتبَّعةً الصوت في الآفاق، ولكن لله إرادةٌ لا يردّها
التدبير. حطَّت قدمي عند نقطةٍ أعرفها جيداً، وأستطيع منها تحديد الجهات الأربع.

جددتُ عزيمتي، وحددتُ هدفاً جديداً؛ وادي حسكه، وهو واد يفصل بين
قريتِي وبلدة حلحول،     ويقع غرباً من
موقع تواجدي. شحنتُ طاقتي، وسرتُ باتجاه الغرب راكضاً، ولم أغفل أن الجيش قد يقتحم
البلدة في أي وقت، وحسبتُ أني قد بلغت المرام، ولكن….

في الجهة الغربية كنتُ أركض، غير أن المساكن أخذت تحاصرني من كل جانب،
وتشدّد قبضتها عليّ، وعدتُ إلى نقطة البداية، في المتاهة من جديد، ولكن في هذه
المرة عليَّ أن أحسم أمري، وأتخذ قراراً صارماً في الاختفاء عن الأنظار، لا مجال
لمزيد من المغامرة والتهور، لقد بحثت، وتنقّلتُ من شارع إلى شارع بلا فائدة.

وقفتُ في جهة من شارع عريض، يدلُّ على أنه شارع مركزي رئيسي، وآخره
ظاهر لي، غير أني كنت متردداً في قطعه لضيق الوقت، على الرغم من أنني توقعت أنه
سينتهي بي إلى نتيجة جيدة! وعن يميني مبنى جديد، مكوَّن من ثلاث طوابق لم يُسكن
بعد، فأخذتُ حثيات من التراب، ونثرتها على الدم لأواريه، ثم دخلتُ إلى الطابق
الأخير من المبنى.

جلستُ على أرضيّة غرفة فيه، بيد أن نفسي لم تطمئن، وتضاعف أرقي فنزلت،
ثم أخذتُ أسير في طريق ضيِّق لا تتّسع لاثنين، تفصل بين البناية الكبيرة التي كنتُ
فيها، ومسكنٍ أرضُه أسفل من قدمي بمترين، مسوَّر بسور يعلو قدمي بنصف متر تقريباً،
والساعة الآن شارفت على السادسة إلا عشر دقائق.

أوصلني الطريق إلى زريبة صغيرة، من غرفتين مظلمتين، دخلتُ في الثانية،
لأنها فارغة إلا من البعوض، والحجارة والرطوبة، أخذتُ زاويةً فيها، وجلستُ مرهقاً،
وقد استنفدتُ أسبابَ النجاة، وصرتُ أقرأ القرآن حتى نمت.

استيقظتُ على وقع أقدام هائجة،لا يفصل بيني وبينها الا جدار رقيق من (
الطوب ) ، وصوت مكبرات الصوت يملأ الآفاق، يعلن منع التجول، ..؟؟؟

الى اللقاء في الجزء السابع والاخير 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى