عين على العدو

غزة: التهدئة بين العدوان المبيت والاغتيال السياسي

 


 


بينما المصريون منشغلون بـ «التهدئة» علها، بعد أن نجحوا في إقناع المقاومة الفلسطينية بها، تساعد الرئاسة الفلسطينية في «تأهيل» نفسها لإقناع الإدارة الأميركية بالوفاء بوعدها لها بتحقيق «رؤية» رئيسها جورج دبليو. بوش حول «حل الدولتين»، يخرج بوش على الملأ، من الكنيست، أعلى منبر في دولة الاحتلال الإسرائيلي، ليعد باختفاء حماس خلال «أيام أو شهور»، فيعطي الضوء الأخضر الأميركي للاحتلال كي ينفذ عدوانه المبيت على قطاع غزة، تحت أضواء عالمية وعلى أرفع مستوى، دون أن يجد أي جدوى في اغتنام مناسبة زيارته لينقل إلى الإسرائيليين رسالته التي تعهد بها للفلسطينيين بإقامة دولة لهم، ليحكم بذلك على الجهود المصرية للتهدئة بالفشل وليبدد آخر أمل للرئاسة الفلسطينية في أن يفي بوعوده لها ويقضي على ما تبقى من مصداقية لنهج الرئاسة الفلسطينية السياسي ويوجه أكبر ضربة حتى الآن لإضعاف الرئيس محمود عباس وهو الذي يقول عنه إنه «الشريك» الفلسطيني في «عملية السلام».


ومثل هذه المقدمات كان ينبغي أن تقود إلى نتائجها المنطقية فلسطينياً فيوقف الرئيس عباس المفاوضات والتنسيق الأمني مع دولة الاحتلال، ويمتنع عن لقائه مع بوش في شرم الشيخ ويستبدلها بالاستجابة لدعوة حماس لزيارة غزة ليبعث رسالة وطنية فلسطينية بان الشعب الفلسطيني سيكون موحداً في مواجهة أي عدوان، وينهي حملة «الاغتيال السياسي» لحماس حتى لا تكون غطاء وذريعة لاجتياح القطاع.


 


ومما نشرته الأهرام المصرية عن «مصدر أمني رفيع المستوى» بشأن الاجتماع مع ممثلي التنظيمات الفلسطينية للاتفاق على أسس التحرك خلال المرحلة المقبلة ، وبداية تنفيذ التهدئة بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي وتأكيد المصدر أن المباحثات الأخيرة لرئيس المخابرات العامة الوزير عمر سليمان في “إسرائيل” «أسفرت عن تأييد وتفهم القادة الإسرائيليين للرؤية المصرية بشأن التهدئة المتزامنة والمتبادلة بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي «لا يسع المراقب إلا تسجيل حرص القاهرة على خلق أجواء متفائلة تتناقض الدوافع والأهداف المصرية لخلقها مع كل التجربة التاريخية لدولة الاحتلال الإسرائيلي مع اتفاقيات الهدنة مع العرب، سواء على المستوى الرسمي أم غير الرسمي، بقدر ما تتناقض مع وضع دولي وإقليمي وحتى فلسطيني يشجعها على مواصلة العدوان على الشعب الفلسطيني وحصاره.


 


فتصريحات رئيس وزراء دولة الاحتلال إيهود أولمرت ووزير حربه إيهود باراك جميعها خلال الأيام الأخيرة تشير في اتجاه معاكس تماماً لأي تهدئة، خصوصاً بعد سقوط مقذوف فلسطيني على مجمع تجاري في عسقلان، قال الأول إن الوضع الناجم عنه «لا يطاق وغير مقبول» بينما قال الثاني إن مثل هذا الوضع لا يمكنه أن يستمر، مع حرص كليهما على التعتيم على شعبهما أولاً ثم على الرأي العام العالمي أنهما وأسلافهما قد فرضوا على الشعب الفلسطيني ورئاسته أن «يطيقوا» و«يقبلوا» التفاوض معهم بينما آلتهم العسكرية قد حولت الحياة اليومية للفلسطينيين تحت الاحتلال منذ عام 1967 إلى «وضع مماثل» طويل الأمد في كل مدينة وقرية ومخيم فلسطيني، وليس لمرة واحدة أو اثنتين وكحالة معزولة، وبينما التوجه الإسرائيلي لـ «تأبيد» هذا الوضع يحظى بضوء أخضر أميركي وسلبية أوروبية وعربية غير بريئة تجد جميعها ذرائع لها في التناقض بين قول الرئاسة الفلسطينية وبين فعلها أو عدم فعلها، مما يقود عملياً إلى استمرار الوضع الراهن في قطاع غزة.


 


وإذا كان موقفا الاحتلال الإسرائيلي وراعيه الأميركي غنيين عن البيان بالنسبة للشعب الفلسطيني، ومثلهما الموقف العربي، فإن موقف الاتحاد الأوروبي ليس كذلك، أولاً بسبب اختبائه خلف الموقف الأميركي وثانياً لكونه «المانح» الأول للرئاسة الفلسطينية وثالثاً لأن مفاصل هامة برلمانية وإعلامية وأكاديمية وثقافية تقف إلى جانب الشعب الفلسطيني وحقه في تقرير مصيره فيخطف تضامنها وتعاطفها الأضواء الفلسطينية بعيداً عن الموقف «الرسمي» للاتحاد الذي لا يستطيع فكاكاً من التبعية السياسية للموقف الأميركي لكي ينهي التناقض بين وزنه الاقتصادي وبين فعله السياسي وبين بياناته المؤيدة لإنهاء الاحتلال والوقف الكامل لكل الاستعمار الاستيطاني الاستئصالي الإسرائيلي وبين عجزه عن وضع سيفه ويده حيث لسانه، ليتحول هذا العجز بدوره إلى ضوء أخضر أوروبي لدولة الاحتلال كي لا ترتدع.


 


ومناسبة هذه الإطلالة على الموقف الأوروبي ما نسبته إذاعة جيش الاحتلال الإسرائيلي إلى وزير الخارجية الاسباني، ميغويل موراتينوس، دون أي نفي من أية جهة لما نسبته إليه حتى الآن من دعوته، خلال حديث مع قادة الاحتلال في اليوم السابق، إلى مؤتمر دولي يضم الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة و”إسرائيل” والأردن ومصر يبحث كيفية «إسقاط نظام حماس» في قطاع غزة! إن مثل هذا الضوء الأخضر الاسباني، إن صح ما نسب إلى موراتينوس، للعدوان الشامل على القطاع سوف يسقط الصورة الايجابية المعروفة فلسطينياً عن الرجل كصديق للشعب الفلسطيني ورمزه الراحل ياسر عرفات، لكن الأخطر إن هذا الضوء سيعطي دفعة أوروبية ترجح كفة ميزان المغامرين العسكريين الأميركيين والإسرائيليين الذين يتحينون فرصة أو ذريعة أو ضوءاً أخضر مماثلاً لارتكاب مجزرة جماعية في القطاع تقضي على أي جهد مصري أو غير مصري لـ «التهدئة».


 


أما موقف الرئاسة الفلسطينية من التهدئة فإنه إيجابي لفظاً لكنه سلبي عملياً فهي من جهة تصر على أن تكون شريكاً في أي تهدئة بالرغم من أنها ليست شريكاً في «عدم التهدئة»، في الأقل في القطاع، مما يدفع المقاومة في غزة إلى انتقادها بالقول إن من يحارب هو من يسالم أما من لا يحاربون فلا يحق لهم أن يفاوضوا على التهدئة أو يكونوا شركاء فيها، وهي من جهة أخرى تقف محايدة تماماً وكأنها غير معنية من اشتراط المقاومة أن تكون التهدئة، إن تم التوصل إليها، شاملة للضفة الغربية أيضاً، حيث الاحتلال يواصل عدوانه من جانب واحد بالرغم من التزام الرئاسة التزاما صارماً بالتهدئة من جانب واحد لا بل إنها تنسق أمنياً مع الاحتلال لضمان استمرارها من جانب واحد، مما شجع الاحتلال في مفاوضات التهدئة على التذرع بموقف الرئاسة هذا ليجادل بأن السلطة «الشرعية» في الضفة هي المعنية بالتهدئة فيها وبالتالي فإن غزة ليست مخولة للتفاوض عنها، ومن هنا «مرونة» غزة حول هذا الشرط.


 


إن عملية الفصل التعسفي المستحيل وغير الواقعي بين حماس وبين الشعب الفلسطيني في القطاع التي تعتمدها الرئاسة، وهو الموقف ذاته الذي تدعيه حكومة الاحتلال، والتناقض بين أقوالها كما ترد في تصريحاتها وبيانات حكومتها واللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية التي تقودها والتي تطالب برفع الحصار عن القطاع ووقف العدوان عليه وبين مواقفها الفعلية العملية التي تمثل عملية «اغتيال سياسي» يتذرع بها الاحتلال وراعيه الأميركي ليسوغا من جهة إعلان القطاع «كياناً معادياً» يمكن فرض العقوبات الجماعية عليه ثم تصفية هذا الكيان عسكرياً من جهة أخرى.


 


وإلا كيف يمكن التفسير بغير «الاغتيال السياسي» إقدام الرئاسة على حظر الجناح المقاوم لحماس باعتباره «خارجاً على القانون»، واعتبار رئيس حكومة الوحدة الوطنية الشرعية المقالة زعيم «انقلاب» قادته حركته التي حازت على أصوات تفوق كل تلك التي حصلت عليها كل فصائل منظمة التحرير الفلسطينية مجتمعة في الانتخابات الأخيرة لأنه حسم فلتاناً أمنيا كانت الرئاسة تشكو منه قبله، ورفض التعامل مع إدارة الأمر الواقع التي أقامها في القطاع مكرها لا مختاراً ورفض الحوار مع حركته قبل تلبية شروط إسرائيلية -أميركية صاغتها الرئاسة بلغة عربية موشاة بزخارف لفظية فلسطينية، وتكرار تغذية آلة الدعاية الضخمة للاحتلال باقتباسات فلسطينية على ارفع مستوى لمقولات هي في الأصل صناعة إسرائيلية أنتجت في مطابخ الحرب النفسية والإعلامية لمخابرات الاحتلال واستخباراته، مثل الحديث عن البيئة الحمساوية التي أدخلت «القاعدة» إلى القطاع وخدمة أجندات خارجية لدول يتهمها التحالف الإسرائيلي – الأميركي بدعم «الإرهاب»، وإدانة «العنف» الدفاعي الذي تمارسه جميع الفصائل الفلسطينية دون استثناء لمقاومة إرهاب الدولة الإسرائيلية للاتفاق «مصادفة» مع دولة الاحتلال في تحميل المقاومة المسؤولية عما تسميه «الإرهاب» (ويمكن هنا تذكر التصريح الرئاسي المشهور عن أن اسر جندي الاحتلال كلف الشعب الفلسطيني مئات الشهداء مع أن آلاف الشهداء الفلسطينيين سقطوا قبل ذلك)، وعدم الإقدام على أي إجراء عملي لرفع الحصار عن القطاع ووقف العدوان المتواصل عليه يمكن أن يفسر بأن هذين المطلبين يمثلان أولوية في الأجندة السياسية للرئاسة وحكومتها، مثل تعليق التنسيق الأمني مع الاحتلال لحين تلبيتهما أو اشتراط تلبيتهما لمواصلة المفاوضات أو تنظيم حملة دولية موازية في الأقل لا بديلة لحملة الرئاسة من أجل حشد أموال المانحين والمستثمرين لسلطة الحكم الذاتي تضع المطلبين على جداول أعمال المنتديات الإقليمية والدولية «الصديقة» للرئاسة، الخ.


 


إن دولة الاحتلال تبيت عدواناً على القطاع وهي غير معنية إلا بتهدئة فلسطينية من جانب واحد تمليها بشروطها وإذا لم تستطع ذلك دبلوماسياً فبآلتها العسكرية وهذه هي خلاصة التجربة الفلسطينية مع دولة الاحتلال منذ نجحت الرئاسة الفلسطينية في انتزاع تهدئة من المقاومة وحماس تحديداً منذ اتفاق القاهرة الفلسطيني أوائل عام 2005، فماذا كانت النتيجة خلال العامين التاليين قبل «سيطرة» حماس على مقاليد الأمور في غزة التي يتذرع الاحتلال بها الآن؟ ألا يكفي الوضع في الضفة الغربية، مقر الرئاسة، شاهداً على نوايا الاحتلال حيث يواصل عدوانه من جانب واحد بالرغم من التزام الرئاسة أيضاً من جانب واحد بالتهدئة حد التنسيق الأمني مع الاحتلال ضد «العنف» وعناصره وثقافته وأي حاضنة شعبية له حتى لو كانت روضة أطفال تديرها جمعية خيرية! إن «الوضع الراهن» الذي يريدون استمراره في القطاع ينتظر موعداً لتنفيذ ما سبق لباراك أن قال إنه خطة جاهزة لاجتياح القطاع بانتظار موافقة أولمرت عليه وفي هذه الحالة ستدفع المقاومة إلى وقفة تاريخية تصنع ملحمة فلسطينية معاصرة لأسطورة «مسعدة (ماسادا)» التي تقول الرواية اليهودية إن الجيش الروماني حاصر القلعة المطلة على البحر الميت حتى أجبر المحاصرين اليهود فيها على «الانتحار الجماعي»، الذي يمجده اليهود والإسرائيليون باعتباره «بطولة خالدة» حظيت بمبادرة الرئيس الأميركي بوش لتخليدها بدوره بزيارة لما يقول أصحابها إنه «أثارها» أثناء زيارته لدولة الاحتلال نهاية الأسبوع الماضي، غير مكتف بـ «احتفاله» بما وصفته غريمته السياسية «الديموقراطية» رئيسة مجلس النواب في الكونغرس نانسي بيلوسي بأنه أعظم انجاز للبشرية في القرن العشرين الماضي، أي إنشاء الدولة التي يؤيد كلاهما الآن «يهوديتها» ويسعيان إلى إملاء القبول بيهوديتها على العرب وبخاصة الفلسطينيون منهم.


 


لكن الفوارق ستكون أساسية بين الملحمة المحتملة وبين أسطورة مسعدة فعرب فلسطين في القطاع، الذين يحرم دينهم الحنيف الانتحار، لن ينتحروا لا أفراداً ولا جماعة ولن يقتلوا أطفالهم ونساءهم ثم يقتلون بعضهم كما فعل أصحاب الأسطورة حسب ما يقول رواتها اليهود، بل سيقاتلون الغازي رجالاً وأطفالاً ونساء حتى يندحر أو يستشهدون، اقتداء بتراث أسلافهم في تاريخهم الوطني والعربي والإسلامي، في ملحمة لن تكون معركة مخيم جنين عام 2002 إلا مصغراً لها ولن تكون نتيجتها بالتأكيد مثل نتيجة الماسادا اليهودية، لينتهي وجودهم ويزول أثرهم، بل لتفجر عاصفة وطنية ستكون بالتأكيد أعتى من «العاصفة» التي فجرتها معركة الكرامة في غور الأردن عام 1968، لمن ما زالوا يتذكرون «الكرامة» وثقافتها ومرجعياتها الوطنية. 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى