الحرب النفسية بين العصف المأكول والجرف الصامد
المجد – خاص
أبرز العدوان الأخير على غزة الدور الهام الذي تلعبه الحرب النفسية بأنشطتها المختلفة في توجيه مسار المعارك، وقد سخر العدو الصهيوني كافة إمكاناته المادية والبشرية والإعلامية وجند كل أدواته في محاولة التأثير على الرأي العام وضرب الجبهة الداخلية في قطاع غزة.
المقاومة الفلسطينية لم تتصد لهذه الحرب المحمومة وحسب بل نقلت معارك الحربة النفسية إلى عقر دار العدو، ولقنته دروسا هامة في المصداقية، وجعلت منه أضحوكة أثناء محاولاته الخائبة للتغطية على خسائره، فبات يترقب انتظار المفاجئات التي أفقدته صوابه.
موقع (المجد الأمني) يرصد أهم محطات الحرب النفسية في دراسة مقارنة بين العصف المأكول والجرف الصامد.
أولاً: التسمية
الجرف الصامد: يحرص جيش الاحتلال على إطلاق تسميات معينة على حروبه وعملياته العسكرية، وهذه التسميات تتوخى في الغالب رفع معنويات المقاتلين وهز معنويات الطرف الآخر وإظهار عدالة الحرب وتبريرها، وعادة ما تكون الأسماء ذات ارتباط وثيق بمناسبة دينية أو معنى توارتي.
وإذ حللنا الاسم الذي اختاره العدو وتمعنا في ظلاله وإيحاءاته خاصة بالعبرية والعربية، فسنجد أنه قد خالفه التوفيق والسداد، فلا حافز فيه على الهجوم والاقتحام وتحقيق الانتصار، كما أن ظلال مصطلح الجرف توحي ابتداء بمعاني الانجراف والسقوط وليس الصمود.
وكذلك فإن كلمة الجرف في القرآن الكريم قد جاءت في سياق الانهيار والتداعي وليس الثبات والصمود وذلك في قوله تعالى: (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).
العصف المأكول: كانت التسمية امتداد لحرب 2012 معركة حجارة السجيل التي تميزت بالصواريخ التي طالت تل الربيع المحتلة وتجلت فيها روح الانتصار، واُقتبس الاسم وما يحمله من عبقرية وسر من السورة ذاتها – سورة الفيل – مع فارق أن الحرب السابقة ركزت على الأداة والسلاح (حجارة السجيل) كما لو كانت ستكتفي بوصول الصواريخ إلى تل الربيع المحتلة والقدس ولا يهمها تمريغ أنف العدو، بينما معركة العصف المأكول كانت معنية بما تفعله من إثخان في العدو وجنوده.
إن استحضار قصة أصحاب الفيل ومفردات السورة الكريمة: (حجارة السجيل، والطير الأبابيل والعصف المأكول) في عناوين المعركة وأسماء الأسلحة كان له أثر معنوي عظيم في نفسيات المجاهدين والشعب الفلسطيني خاصة والأمة الإسلامية عامة، والتي يحفظ صغارها وكبارها عن ظهر قلب سورة الفيل، يعرفون جميعاً ما جرى لجيش أبرهة المعتدي على الأرض المقدسة فيها.
ثانياً: المفاجآت
تعودت دولة الاحتلال أن تكون هي صحابة الصدمة والضربة الأولى في كافة حروبها، ولكن الوضع هذه المرة كان مختلفاً ولعل تسلسل الأحداث بعد خطف المستوطنين الثلاثة، واستشعار المقاومة بما يدور في الأفق بناءً على وقائع وتحليلات، أعطى مؤشراً هاماً ومكن الحركة من الأخذ بوسائل الحيطة والحذر تجنباً لغدر ومباغتة العدو.
تميزت معركة العصف المأكول بتطبيق شعار (نغزوهم ولا يخزونا)، هذا الشعار الذي سخر من البعض، والذي استطاعت المقاومة أن تطبقه واقعاً على الأرض بعد أن نجحت في تضليل العدو.
زكيم والإنزال البحري: شكل اقتحام تلك القاعدة العسكرية البحرية ومهاجمة الجنود فيها عبر الضفادع البشرية مفاجأة أفقدت العدو صوابه وبعثت النشوة والاعتزاز لدى الجمهور الفلسطيني.
الإنزال خلف خطوط العدو: وذلك باستخدام الأنفاق للوصول إلى معسكرات العدو، ونصب الكمائن لقادته وجنوده، وتكرار ذلك مرات ومرات، والعودة بسلام أو بخسائر محدودة، وتصوير بعض العمليات، وما يفعله ذلك في معنويات المستوطنين الذين غادر أكثرهم مستوطنات غلاف غزة، ولأول مرة يتم إخلاء مناطق شاسعة في الأراضي المحتلة عام 48 من ساكنيها.
الصواريخ وشبكات الأنفاق: إن استمرار هطول الصواريخ على المدن المحتلة ووصولها إلى مديات غير مسبوقة بضرب حيفا واستمرار ضرب تل الربيع المحتلة طوال الحرب كان مؤشراً هاما للمجتمع الصهيوني على عجز قيادته وفشلها في تحقيق أهدافها، كما أن شبكات الأنفاق وامتدادها شكل واحدة من أبلغ المفاجآت الصاعقة التي وجهت ضربة قاسية للمنظمة الأمنية الصهيونية.
أسر الجنود: كان لإعلان المقاومة أسر شاؤول آرون عقب معركة الشجاعية مفعول السحر، فبينما نفى العدو وتجاهل الأمر في البداية، ثم ادعى أنه يفحص ما جرى، ثم اضطر إلى الإعلان أن الجندي المفقود معدود في القتلى ليستفز المقاومة للإعلان عن مصيره. هذا التخبط زعزع ثقة المجتمع الصهيوني بجيشه الذي لا يقهر، ورفع أسهم المقاومة في عنان السماء، وجعل رصيدها في المصداقية عالياً، وزاد من التفاف الجماهير حولها التي أعطتها الثقة والدعم اللامحدود.
الصناعات العسكرية: كان مصلح صناعاتنا العسكرية الفلسطيني مبعث فخر وعزة لدى الفلسطينيين، أبرزت دور الإدارة والتصميم في صناعة المعجزات وتحدي الحصار، فمن الصواريخ متعددة المدى، إلى البندقية القناصة غول، إلى الطائرة بدون طيار أبابيل بأنواعها الثلاثة، إلى ربع مليون قنبلة يدوية.
التصنيع أثناء الحرب: إن استمرار التصنيع أثناء حرب العصف المأكول وتصويره ونشره على وسائل الإعلام كان بمثابة الصاعقة لقادة الاحتلال وأجهزته الاستخبارية، وكان بمثابة تحدي لقادة دولة الاحتلال وكشف زيفهم في تحقيق أهدافهم، وهي القضاء على صواريخ المقاومة.
الإعلان المسبق عن قصف تل الربيع المحتلة: شكل إعلان المقاومة نيتها قصف تل الربيع المحتلة في ساعة محددة ودعوته وسائل الإعلام إلى الترقب والتصوير مفاجئة من المعيار الثقيل، التحدي كان صارخاً للمحتل الذي تغطي طائراته سماء غزة بقدرة المقاومة على فرض معادلة الرعب وشلل الحياة ودفع الصهاينة إلى الملاجئ، وبذلك أجادت المقاومة توظيف الإعلام في الحرب النفسية لحدث معتاد تكرر وقوعه أثناء الحرب.
استهداف مطار اللد "بن غوريون": الشلل وحالة الإرباك التي أصابت مطار "بن غوريون" حتى اضطرت العديد من شركات الطيران العالمية لوقف رحلاتها لأيام عديدة، حدث يصيب دول الكيان للمرة الأولى منذ إنشائها وما حققته المقاومة بهذا الصدد عجزت عن تحقيقه كافة الجيوش العربية، المقاومة وظفت الحرب النفسية جيداً ونشرت لوسائل الإعلام بياناً يحذر فيه شركات الطيران من استخدام المطار وأعطى وقتاً زمنياً محدداً لبدء سريان الأمر وتنفيذه مما زاد من حالة الهلع والتخبط والإرباك.
النقطة صفر: تكرر في بيانات المقاومة الحديث عن قال جنود الاحتلال من النقطة صفر، بمعنى أن القتال كان وجهاً لوجه، الأمر الذي يبرز شجاعة المقاومين وإقدامهم بالمقارنة مع جنود العدو، وقد أعطى المقاومون للصفر قيمة تساوي أضعاف ما يساويه أو يؤدي إليه حتى ولو كان إلى جهة اليمين.
واللافت كذلك أن المقاومين الذين استطاعوا التسلل للمستوطنات، كانوا يتركون الأهداف المدنية انتظاراً لحضور الجنود، وهذا السلوك يمثل من يرى أنه يمثل المستقبل وأنه صاحب رسالة وامتداد حضارة، ولذلك فهو يتحرج حتى مما تتيحه له الشرائع الأرضية قبل السماوية من مقاومة مغتصبي أرضه ولو لم يرتدوا لباس الحرب، ذلك أنه حريص على صورته من أي خدش أو تشويه، أما السلوك الصهيوني فهو سلوك المنتحر المندحر ولا يهمه ما يقال عنه أو بعده.
ثالثاً: المصداقية
إن الزمن الذي كان فيه العرب والفلسطينيون يبحثون عن أخبارهم في وسائل الإعلام الأجنبية كإذاعة مونتي كارلو والبي بي سي، وحتى إذاعة الاحتلال، قد ولى إلى غير رجعة، وهنا فإن مصادر المقاومة ووسائل إعلامها قد أضحت موضع الثقة والاحترام من شعبها وأمتها، لا بل إن المحتلين أنفسهم قد أصبحوا يثقون بالناطقين الفلسطينيين أكثر من ثقتهم بمسؤوليهم، وهو ما اتضح عندما رفض الكثيرون من سكان مستوطنات (غلاف غزة) العودة عندما طلبت منهم قيادتهم ذلك، ولم يعودوا إلا بعدما سمحت لهم المقاومة بذلك بعد سريان التهدئة.