دراسة :كيف أثرت حرب غزة على دولة الكيان؟
المجد- خاص
جاءت العملية العسكرية الصهيونية على قطاع غزة لتشكّل مرحلة جديدة من مراحل تطور الصراع الفلسطيني الصهيوني على المستوى العسكري، وهو ما يطرح تطوراً جديداً للصراع على مستواه السياسي يرشحه بعض المحللين أنه قد يكون لصالح الفلسطينيين.
ورغم التطور الأفقي والرأسي للأداء العسكري لفصائل المقاومة الفلسطينية، والذي بدأ مع عملية الرصاص المصبوب عام 2009، واستمر مع عملية عامود السحاب 2012. إلا أن تطور أداء المقاومة خلال هذه الحرب دفع الخبراء لوصفه بأنه نقلة نوعية في تاريخ المقاومة الفلسطينية المسلحة. وفي إطار فشل الاستخبارات الصهيونية في تقديم تقدير حقيقي لإمكانيات المقاومة إلى جانب التعويل المفرط – والذي لم يكن في محله – على منظومة القبة الحديدية، مثّل الأداء العسكري للمقاومة مفاجئة للقيادة السياسية والعسكرية الصهيونية، اربكت حساباتها، وحالت دون إتمام الجيش الصهيونية لأهداف عمليته العسكرية، مما أدى إلى إطالة أمد الحرب بشكل عظّم معه الخسائر الصهيونية على كافة المستويات.
وفي ضوء ذلك تتجلى أهمية رصد وتحليل مستويات تأثير هذه الحرب على دولة الكيان، ومحاولة تحليل ديناميكية تفاعل المجتمع الصهيوني مع أحداث ونتائج مثل هذه الحروب.
أولاً: خبرة الصراع التاريخية ومتغيرات صنعتها المقاومة
تحدثنا الخبرة التاريخية للقضية الفلسطينية بأن الإخفاقات العسكرية الصهيونية ونجاحات المقاومة الفلسطينية غالباً ما تخلق مجال من التأثير في قلب المجتمع الصهيوني، ويتسع هذا المجال مع تراكم حالات الإخفاق إلى أن يشكّل في لحظة تاريخية ما "متغير جديد" يدخل معادلة الصراع.
وعند استدعاء الخبرة التاريخية في هذا الصدد، يمكن الحديث عن متغيرين أساسيين، شكلا تأثيراً سياسياً واضحاً على دولة الكيان من الداخل، الأول، هو "خطة فك الارتباط"، والتي كانت نتيجة مباشرة وحاسمة لتغير أصاب التفكير الاستراتيجي للقيادة السياسية الصهيونية نحو مستقبل الصراع. والثاني، هو "عسكرة النظام السياسي"، ذلك المتغير الذي استمر تأثيره في التعمق داخل النظام السياسي الصهيوني، ليصبح عاملاً حاسماً في إدارة دولة الكيان للصراع.
خطة فك الارتباط
تمكنت المقاومة الفلسطينية من خلال تطور أداءها العسكري في غزة عبر سنوات، من رفع تكلفة بقاء الجيش الصهيوني هناك، ومن ثَمَّ أدرك شارون – أحد أهم منظّري المشروع الاستيطاني في الضفة الغربية وغزة والذي كان يتعهد دائماً لناخبيه بأنه سيفرط في تل أبيب في حال فرّط في "بنتساريم"(·) – عجز الجيش الصهيوني عن تحقيق نصر حاسم على المقاومة الفلسطينية، وبالتالي فإن تكلفة الاستمرار في احتلال قطاع غزة غير مجدية، إضافة إلى سعيه لتحسين الوضع الديموغرافي لدولة الكيان، من خلال التخلص من 1.5 مليون فلسطيني في قطاع غزة، ونقل تبعيتهم إلى كيان أخر قد ينشأ، ومن ثَمَّ ظهرت خطة فك الارتباط على يد شارون في أواخر عام 2003 وتم تنفيذها في سبتمبر 2005، وقضت بانسحاب دولة الكيان من قطاع غزة، وأربع مستوطنات في شمال الضفة الغربية. وقد اعتبر أحد المفكرين الصهاينة خطة فك الارتباط بأنها "أحد الشواهد على نهاية حقبة الأفكار الكبيرة لدولة الكيان التي باتت تدرك حدود قوتها ومواطن قصورها".
عسكرة النظام السياسي
حيث يرى الخبراء والمحللون السياسيون الصهاينة أن أهم أثر للمقاومة الفلسطينية على النظام السياسي الصهيوني دفعه نحو تآكل البنية الديموقراطية للنظام، من خلال طغيان دور المؤسسة العسكرية على الهيئات السياسية، وتجاوز هذا الدور للحكومات المنتخبة نتيجة لاستمرار حالة الصراع، وتفويض الجيش لحسم المعركة دون النظر للخيارات الأخرى، مما أعطاه زمام المبادرة، والتحكم بالقرار السياسي، إضافة إلى جنوح المجتمع الصهيوني نحو اليمين، وهو ما دفع أحد المحللين الصهيونيين إلى القول بأن "دولة الكيان أصبحت دولة يملكها جيش".
ثانياً: مستويات تأثير حرب غزة على دولة الكيان
أربع مستويات للتأثير، هي تلك التي يركز عليها هذا التقرير، وهي كالآتي:
المستوى الاقتصادي
جاءت حرب غزة هذه المرة في وقتٍ يعاني خلاله الاقتصاد الصهيوني من أزمة نمو، فقد بلغت نسبة النمو الاقتصادي الصهيوني خلال الربع الأول من هذا العام 2014 نحو 2.8% مقارنة مع 3.2% خلال الفترة المناظرة من العام الماضي 2013، بينما بلغت 1.7% للربع الثاني، مقارنة مع 5.1% في الربع الثاني من 2013.
وقدّر تقرير صادر عن وزارة المالية الصهيونية، حجم الخسائر الصهيونية بسبب الحرب على غزة بنحو 3.5 مليار دولار، وتشمل الخسائر المباشرة فقط، بينما اجتهدت مؤسسات رسمية وإعلامية في تقدير حجم الخسائر، إلا أن كل التقديرات توقفت عند سقف 16 مليار شيكل (4.5 مليار دولار).
ويمكن التعرف على المبالغ التي أنفقتها دولة الكيان على هذه الحرب من خلال الآتي:
فيما يتعلق بالقبة الحديدية، فإن اعتراض كل صاروخ يتكلف حوالي 50 ألف دولار، وهو ما جعل الخبراء يتوقعون وصول تكاليف عمل هذه المنظومة إلى ما يقارب 29 مليون دولار.
بلغت تكلفة كل طلعة لسلاح الجوي الصهيوني نحو 15 ألف دولار، ما يجعل التكلفة التقريبية للطلعات الجوية الصهيونية تصل إلى أكثر من 73 مليون دولار. وذلك دون احتساب تكلفة القنابل الذكية – وهي تلك المزودة بحواسيب وكاميرات وذات مدى يبلغ 15 ميلاً – والتي استخدمتها الطائرات الصهيونية بكثافة، ما يعني رفع تكلفة الطلعة الجوية الواحدة.
بلغت تكلفة ذخيرة الهجوم المباشر حوالي 32 ألف دولار، كما قامت دولة الكيان باستدعاء 82 ألف من جنود الاحتياط أثناء الحرب، تم استدعاء نصفهم تقريباً في بداية الحرب والنصف الأخر أثناء الحرب، ومن الصعب تحديد التكلفة الفعلية للاحتياط لأن كل جندي يتلقى مبلغاً للتعويض عن راتب وظيفته الشهري.
بيد أنه وفقاً لصحيفة يديعوت أحرونوت، يكلف كل جندي احتياط مبلغ 174 دولار في اليوم، يشمل الطعام والمأوى والزي والسلاح. وإذا كانت تلك الأرقام صحيحة، فإن الجيش ينفق حوالي 200 مليون دولار على جنود الاحتياط غير شاملة للرواتب.
رجّح متحدث باسم وزارة الصحة تكلفة علاج الجرحى بنحو 4.4 مليون دولار، إضافة الى ذلك، تلقت الحكومة 2500 شكوى حول وقوع أضرار في الممتلكات جراء تساقط الصواريخ، وقدرتها بنحو 14.6 مليون دولار.
وقد طالت المنطقة الجنوبية خسائر اقتصادية كبيرة، وذلك على صعيد كافة المرافق الزراعية والصناعية والسياحية والتجارية، فالمنطقة الجنوبية تشكل 10% من حجم الاقتصاد الصهيوني، أي أن 10% من الاقتصاد الصهيوني مُعطّل لما يقرب من شهرين. وبالنسبة لباقي المناطق هناك تراجع بنسبة 35% في النشاط الاستهلاكي، وهناك تراجع في ارتياد المجمعات التجارية بنسبة 70%، مع العلم أن النشاط الاستهلاكي يشكّل المحرّك الرئيسي لأي اقتصاد وتراجعه يعني الدخول في دوامة من التباطؤ الاقتصادي. كما أدى هذا العدوان إلى ضربة قاسية طالت القطاع السياحي فنسبة إشغال الغرف الفندقية تكاد تصل إلى 30% بدلا من 100% كما هو الحال في هذه الفترة من كل عام، كذلك بالنسبة للسياحة الداخلية والتي تراجعت بنسبة 80%.
وهو الأمر الذي دفع المحللون إلى توقع أن الاقتصاد الصهيوني لن يسجل نسب نمو في الربع الثالث والرابع من العام الجاري 2014 تتجاوز 1.5%.
وفي سبيل مواجهة ما لحق بالاقتصاد الصهيوني من خسائر جراء الحرب، عرضت الحكومة مقترحات لتخفيض مبلغ 480 مليون شيكل (137 مليون دولار) من موازنة التعليم، و175 مليون شيكل (50 مليون دولار) من التعليم العالي، و69 مليون شيكل (19 مليون دولار) من موازنة الهيئات المحلية، كما سيتم تقليص 51 مليون شيكل (14.5 مليون دولار) من الأمن الداخلي، و43 مليون شيكل (12.3 مليون دولار) من الصحة، و76 مليون شيكل (21.7 مليون دولار) من التقاعد، و243 مليون شيكل (69.4 مليون دولار) من المواصلات، و62 مليون شيكل (17.7 مليون دولار) من الشؤون الاجتماعية. وتأتي هذه المقترحات، في أعقاب توقعات بارتفاع العجز في موازنة عام 2015، إلى 3.5% من الناتج المحلي الإجمالي، بحسب تصريحات لوزير المالية يائير لابيد. وهو الأمر الذي ربما يسبب ارتباك داخل الحكومة، وربما يُنتج حالة من الغضب الشعبي.
المستوى السياسي
على صعيد الداخل الصهيوني
تراجع الشعبية وزيادة الانتقادات من داخل الحكومة ومن بين صفوف المعارضة، هو مصير أي رئيس حكومة يقود عملية عسكرية فاشلة – أو سببت خسائر ضخمة على أقل تقدير – ويبدو أن نتنياهو كان يخشى هذا المصير، وهو ما جعله متردداً في شن الحرب على غزة، رغم ضغوط معسكر اليمين في حكومته.
وهنا نجد نتنياهو أمام مأزق ثلاثي الأبعاد، يتمثل الأول في اتجاهات الرأي العام، التي وإن لم تصل إلى حد الغضب من نتنياهو إلا أنها سجلت تراجع كبير، حيث تُظهر استطلاعات الرأي العام الصهيوني تراجع شعبية ودعم نتنياهو من نسبة 82% قبل الحرب إلى 32% بعدها.
يتمثل البعد الثاني فيما ينتظر نتنياهو من مواجهات داخل حكومته، حيث استغل خصوم نتنياهو السياسيين ساعة انتهاء الحملة كي ينتقدوا سياسته انتقاداً عارماً. حتى صديقه السابق، "عوزي أراد"، الذي كان أيضاً مستشاره للأمن القومي، هاجم الطريقة التي أنهى بها نتنياهو الحملة العسكرية من غير أن يقدّم للجمهور الصهيوني تقريراً عن الاتفاق الذي أحرز لإنهاء الحملة.
وقد نعت أراد خطاب نتنياهو بـ "أمور تسويقية". كذلك، يعتقد رئيس المعارضة، يتسحاق هرتسوغ، أن خطاب نهاية الحملة لنتنياهو كان "خطاب نصر محزن من قبل رئيس الحكومة الذي لم يُفلح في استغلال إنجازات الجيش وفقد ثقة الجمهور الصهيوني، وخاصة الجمهور في منطقة الجنوب والتفافي غزة". تنضم هذه التصريحات إلى تصريحات الوزيرين ليبرمان وبينت اللذين انتقدا بشدة اتفاق وقف إطلاق النار الذي أحرز، ويمكن فهم تصريحات ليبرمان وبينت في إطار تصاعد طموحهما السياسي لخلافة نتنياهو، خاصة في ظل صعود النجم السياسي لـ"بينت". كما أنه من المتوقع أن تشهد عملية إقرار الميزانية الوطنية لعام 2015 معركة شرسة، مع النمو المتوقع لميزانية الدفاع، والتقليص الحاد في باقي مخصصات الميزانية، وذلك من أجل تجنب شبح زيادة الضرائب أو خفض الفائدة على ناخبي الطبقة المتوسطة الذي يعتمد عليهم مستقبل الحكومة السياسي.
والبعد الثالث، هو الخلافات داخل حزب الليكود، حيث يُتوقع أن يتواجه نتنياهو مجدداً مع خصمه داني دنون، نائب وزير الدفاع السابق الذي أقاله رئيس الحكومة بعد النقد الشديد الذي أبداه تجاهه. أبلغ دنون، الذي يسيطر على مركز حزب الليكود، أن مركز الحزب سيجتمع في مدينة أشكلون كي يتباحث حول مسألة "إن كان الجنوب أكثر أمناً". ويُذكر، أن مدينة أشكلون تعرضت خلال حرب غزة إلى هجمات كثيرة، ويبدو أن سكانها غاضبون من رئيس الحكومة. لذلك حين يقف نتنياهو أمام أعضاء حزبه، سيكون من الصعب عليه أن يُظهر نفسه بمظهر المنتصر.
على الصعيد الفلسطيني
فيما يتعلق بالفلسطينيين، وفيما يعتبره اليمينيون أكثر ضرراً من الخسائر الاقتصادية، فإن دولة الكيان فشلت في تحقيق الهدف الأساسي من الحرب، وهو القضاء على حماس وتقويض بنيتها العسكرية والتحتية. وفي ذلك يقول "عاموس هرئيل": "حماس لم تُهزم، وستبقى المنظمة تحكم القطاع، وستبقى الشريكة المركزية في كل تسوية في المستقبل؛ حتى لو تم ذلك بصورة غير مباشرة". كما أن الخبراء يشيرون أنه تم تقويض ما قامت به دولة الكيان لسنوات وهو تكريس القطيعة بين حركتي فتح وحماس، أو بين الضفة الغربية وقطاع غزة، حيث قال المحلل السياسي الصهيوني "تشيكو منشة"، "إن نتيجة الحرب كارثية من الناحية السياسية، لأنها قضت على أهم إنجاز حصلت عليه دولة الكيان من الانقسام الفلسطيني، وهو تكريس القطيعة بين الضفة الغربية وقطاع غزة، وبات في حكم المؤكد أن أداء حماس في الحرب أفاد قيادة السلطة الفلسطينية وأوضح لصناع القرار في الحكومة اليمينية أنهم قد أخطأوا عندما لم يعترفوا بحكومة الوفاق الوطني التي تشكلت في أعقاب توقيع اتفاق المصالحة بين حركتي فتح وحماس". وفى نفس السياق كتب "جدعون ليفى" في هآرتس: "إن دولة الكيان أصبحت مستعدة للتفاوض مع ممثلي الوحدة الفلسطينية، وهم من رفضتهم قبل أشهر عندما تمت المصالحة بين فتح وحماس وهو ما تعده دولة الكيان إنجازاً حقيقياً لحماس واعترافاً بها.
على الصعيد الخارجي
على المستوى الشعبي، عمت المظاهرات المناهضة للممارسات الصهيونية، جميع أنحاء العالم، بشكل غير مسبوق قبل ذلك، تعبيراً عن الغضب الشعبي تجاه ما يحدث في غزة، وقد ارتفعت وتيرة تلك التظاهرات يوم 25 يوليو 2014 بالتزامن مع الفعاليات السنوية لـ"يوم القدس العالمي".
وعلى المستوى الحكومي، كانت لحكومات دول أمريكا اللاتينية رد فعل قوي وقاسي تجاه دولة الكيان جراء ممارساتها أثناء حرب غزة الأخيرة. فمنذ أطلقت دولة الكيان يوم 8 يوليو الماضي 2014 قصفها على غزة، صدرت تصريحات وبيانات إدانة شديدة اللهجة من حكومات الأرجنتين والمكسيك ونيكاراجوا وأوروغواي، فيما دعت السفراء في تل أبيب كل من البرازيل وتشيلي والاكوادور وبيرو. وإضافة إلى ما سبق، أصدر أربعة من خمسة رؤساء دول السوق المشتركة للجنوب (ميركوسور) – وهم: الأرجنتين والبرازيل وأوروجواي وفنزويلا – يوم 29 يوليو 2014 أثناء قمتهم في كراكاس، بياناً "أدانوا فيه بشدة الاستخدام غير المتكافئ للقوة من قبل الجيش الصهيوني في قطاع غزة مما يؤثر أساساً علي المدنيين ومن بينهم النساء والأطفال". وألغي رئيس الإكوادور، رافائيل كوريا، زيارته إلى دولة الكيان وفلسطين التي كان من المقرر القيام بها في هذه الفترة. وفي 29 يوليو 2014، أعن رئيس بوليفيا، إيفو موراليس، أن بلاده وضعت دولة الكيان على قائمة "الدول الإرهابية" حسب ما اعتبره "إبادة جماعية" وعمليات لا إنسانية ضد المواطنين المدنيين في غزة. ومن جانبه، وصف رئيس أوروجواي "خوسيه موخيكا" يوم 4 أغسطس 2014، العدوان الصهيوني على شعب غزة بـ "الإبادة الجماعية"، في حين صرح وزير خارجيته، لويس الماغرو، أن بلاده تنظر في إعادة تقييم "كل العلاقات الدبلوماسية مع دولة الكيان". وبدوره أدان الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو أيضا بشدة الهجوم الصهيوني، ووصفه بأنه "مذبحة مروعة".
بالإضافة إلى أن ألمانيا رفضت قبل عدة شهور إعطاء دولة الكيان منحة مالية بقيمة مئات ملايين اليورو بهدف شراء سفن صواريخ متطورة للدفاع عن منصات الغاز بسبب انهيار عملية السلام واستمرار البناء في المستوطنات. وأثناء الحرب أعلنت إسبانيا عن تجميد التصدير الأمني لدولة الكيان احتجاجاً على استمرار المس بالمدنيين الفلسطينيين. وفي بريطانيا تسبب الحرب بموجة من العداء لدولة الكيان، ومواجهات سياسية حادة في داخل الائتلاف، وكانت النتيجة اتخاذ قرار بفحص سياسية بيع الأسلحة لدولة الكيان، وتجميد 12 ترخيصاً للتصدير الأمني، منها قطع لدبابات "ميركافا" وطائرات بدون طيار.
المستوى العسكري
الفشل في التمسك بمبدأ "الحرب الخاطفة"
يمكن القول أن دولة الكيان في هذه الحرب فشلت في التمسك بأحد أهم مبادئ عقيدتها العسكرية، وهو "الحرب الخاطفة". حيث يقول رئيس شعبة العمليات السابق في الجيش الصهيوني، مدير مجلس الأمن القومي السابق، "جيورا آيلاند"، إن دولة الكيان لم تنجح في حربها على غزة، في فرض مبدأ "الحرب الخاطفة"، الذي يعد أهم مرتكزات "العقيدة الأمنية"، وهو المبدأ الذي يضمن تحقيقه تقصير أمد الحرب إلى أقصر مدة ممكنة، عبر استخدام أكبر قوة نيران ممكنة.
الخسائر العسكرية المباشرة
وفقاً للتقارير الصهيونية، فإن حوالي 70 دولة الكيانياً قد قُتلوا خلال العملية منهم 65 ضابط وجندي سقطوا أثناء المعارك مع المقاومة الفلسطينية على حدود قطاع غزة عندما حاولت قوات الاحتلال الدخول برياً إلى القطاع، في حين قُتل 5 مدنيين في سقوط المئات من صواريخ المقاومة على المستوطنات والمدن الصهيونية، في حين أصيب ما لا يقل عن 2300 دولة الكياني بجراح مختلفة أكثر من نصفهم من الجنود. وأكثر من 4500 صاروخاً قد تم إطلاقه من قطاع غزة تجاه المدن والمستوطنات الصهيونية بدءاً من مستوطنات غلاف غزة وحتى المناطق الشمالية كمدن حيفا وهرتسليا وغيرها، منهم 220 صاروخاً سقط على مباني صهيونية.
وبالنظر إلى سياسة التعتيم التي تتبعها دولة الكيان فيما يتعلق بالإعلان عن الخسائر العسكرية، يؤكد المحللون أن الخسائر العسكرية البشرية الصهيونية بالمئات، وأضعاف ما تم الإعلان عنه بشكل رسمي.
التشكك حول مدى فاعلية منظومة القبة الحديدية
يمكن القول أن الحرب الصهيونية على غزة، وكثافة صواريخ المقاومة، بددت عنصر الأمن الذي حاولت القيادة السياسية والعسكرية الترويج له عن طريق منظومة القبة الحديدية. فمنذ حرب غزة 2009، والحكومات الصهيونية تروج لهذه المنظومة على أنها أحد الحلول الرئيسية لمنع تساقط الصواريخ على المدن الصهيونية، ولكن أثبتت هذه الحرب أنه لا يمكن الاعتماد على هذه المنظمة وحدها في حماية سماء دولة الكيان من صواريخ المقاومة، وهنا يمكن تسجيل الملاحظات التالية:
يتحدث الإعلام الصهيوني بأن لدى الحكومة ثماني منظومات للقبب الحديدية، وكل منظومة تغطي مدينة واحدة بواقع ثماني مدن محمية بنظام القبة الحديدية، ولكن المناطق التي تطلق عليها المقاومة الصواريخ تزيد عن خمسين مدينة وبالتالي تبقى هناك 42 مدينة لا تحميها منظومة القبة الحديدية.
تتحدث الصحافة الصهيونية عن أن 15% فقط من الصواريخ التي أطلقتها المقاومة تصدت لها منظمة القبة الحديدية، ناهيك عن التناقض الكبير في الإحصائيات في هذا الشأن بين التقارير الرسمية وغير الرسمية.
قامت دولة الكيان ببث صوراً لانفجارات في الجو أو مواقع اعتراض القبة الحديدية للصواريخ كدليل على نجاح عمل هذه المنظومة، ولكن من الناحية العملية تعمل القبة الحديدية على إطلاق صاروخين أو ثلاثة مع انطلاق كل صاروخ من قطاع غزة للتصدي له، وفي حال عدم التصدي يعمل صاروخ القبة عبر نظام الانفجار الذاتي على مسافة ستة كيلومترات في الجو حتى لا يكمل سيره ويسقط على أحد التجمعات الصهيونية. ويعني ذلك أنه ليس بالضرورة أن يكون كل بث لعملية تصد للصواريخ يمثل اعتراضاً لها، لأن صواريخ القبة تنفجر بشكل ذاتي وهذا ما أكد عليه موتي شيفر خبير هندسة الطيران والفضاء والحائز على جائزة أمن دولة الكيان حيث قال: "لا يوجد اليوم أي صاروخ يستطيع اعتراض صواريخ أو قذائف صاروخية، جميع الانفجارات التي نشاهدها في الأجواء هي تدمير ذاتي، والأجزاء التي نراها على الأرض تعود للقبة الحديدية نفسها".
الإخفاقات الاستخبارية على المستوى العملياتي
أشارت عدة تقارير إلى أن حرب غزة الأخيرة كشفت عن سلسلة من الإخفاقات الاستخبارية الصهيونية على المستوى العملياتي وفي تقدير الموقف، وهو ما يتضح من خلال الآتي:
كانت التقديرات لدى الأجهزة الأمنية الاستخبارية، في الأيام التي سبقت الحرب، تؤكد أن حماس لن تذهب للرد على دولة الكيان، وأن قيادة حماس لا تنوي الذهاب لصدام عسكري كبير في هذه الأوقات، استناداً إلى تخلي حلفاء حماس عنها، وتصاعد حالة العداء الذي يبديه النظام المصري الحالي، والتضييق الذي مارسه على غزة، ، ولكن تبددت هذه التقديرات مع انفجار الوضع العسكري.
مع بداية العدوان الصهيوني والعمليات العسكرية، بدأت تتكشف مجموعة من الإخفاقات في الحصول على المعلومات الاستخبارية اللازمة للعمليات القتالية، سواء على مستوى تحديد أماكن القيادة السياسية والعسكرية لحماس أو تتبع اتصالاتهم، وفشلت دولة الكيان في تحديد مواقع القيادة وغرف العمليات للمقاومة، وكذلك مواقع تصنيع ومواقع إطلاق الصواريخ. كما أن الاستخبارات الصهيونية لم تتمكن من التعرف على قدرات حماس العسكرية الحقيقية قبيل العدوان، وامتلاكها لصواريخ يصل مداها إلى مدينة حيفا، كما تمكنت المقاومة من مواصلة إطلاق الصواريخ بمعدل ثابت لأيام طويلة.
فشل الاستخبارات الصهيونية في معرفة حجم التحصينات التي أعدتها المقاومة خلال عملية الغزو البري الصهيوني، كلّف الجيش عشرات من القتلى في صفوف وحدات نخبته، وسببت شبكة الأنفاق الدفاعية واحدة من المعضلات التي واجهتها القوات المتوغلة.
المستوى الاجتماعي
ارتفاع معدلات الهجرة الداخلية والخارجية
تُعد ارتفاع معدلات الهجرة – الداخلية والخارجية على حد سواء – هي أكثر مظاهر تأثر الداخل الصهيوني بإخفاقاته العسكرية – أو عدم نجاح عملياته العسكرية على أقل تقدير – وهو الأمر الذي يرتبط بعدم شعور المواطن الصهيوني بالأمان، وعدم قدرته على ممارسة طقوسه اليومية بشكل طبيعي في فترات الحرب على غزة، خاصة إذا كان من سكان الجنوب.
ودائماً ما يكون الجنوب الصهيوني هو أكثر المناطق تضرراً جراء من صواريخ المقاومة الفلسطينية، لذلك أظهر الجنوب.
المواطن الصهيوني بالأمان، وعدم قدرته على ممارسة طقوسه اليومية بشكل طبيعي في فترات الحرب على غزة، خا استطلاع للرأي نقلت أجزاء منه القناة العاشرة الصهيونية أن 21% من سكان جنوب دولة الكيان يفضلون الانتقال منه أو السفر للخارج على خلفية تهديد الصواريخ، وذلك لعدم القناعة بأن أمنهم سيتحقق. وفي سياق آخر، يعيش سكان الجنوب الصهيوني الذين نزحوا صوب الشمال – بسبب استهداف مستوطناتهم بالصواريخ – أزمة حقيقية بسبب محاولتهم توفير سبل العيش لأبنائهم، حيث أنهم لا يفكرون في عدم العودة إلى الجنوب مرة أخرى، على الأقل خلال أشهر الصيف.
أمّا فيما يتعلق بالهجرة الخارجية، فالكثير من الصهيونيين ينظرون إلى أوروبا كطوق نجاة لاسيما في أوقات الحروب، وغالباً ما يبحث الكثير من اليهود الأشكناز (الذين ترجع أصولهم إلى أوروبا الشرقية) عن طريقة للحصول على الجنسية البولندية، والمجرية والألمانية، فيما يبحث اليهود الشرقيون عن الجنسية الإسبانية أو الفرنسية.
حيث أظهرت عدة تقارير ارتفاع عدد الصهيونيين الذين توجهوا خلال شهر يوليو 2014 للحصول على جنسيات أوروبية، مع ارتفاع ملحوظ في معدلات طالبي الهجرة، وقد توقعت هذه التقارير أن يتزايد التأثير الحقيقي لحرب غزة على الهجرة الصهيونية لأوروبا بشكل كبير خلال الفترة القادمة. وأكدت تقارير أخرى أن 46 عائلة صهيونية من أصول تونسية وجزائرية توجهت بطلبات للهجرة إلى فرنسا خلال شهر يوليو 2014 معظمها من سكان جنوب دولة الكيان، لافتة إلى أن كل عائلة تضم ما لا يقل عن 20 فرداً. هذا وتكشف التقارير عن أن عدد حاملي الهويات الأوربية في دولة الكيان تجاوز الـ 150 ألف فرد في عام 2013.
إرهاق العمق المدني الصهيوني وتجلي مظاهر الإحباط
وفقاً للعديد من الخبراء والمحللين، فإن إطالة أمد الحرب أرهقت العمق المدني الصهيوني، وأثّرت في قدرته على الصمود، فبدت مظاهر إحباط المجتمع الصهيوني من إطالة أمد الحرب واضحة. فوفقاً لأستاذ علم النفس الاجتماعي، "يائير كاسبي"، فإن تجذر اليأس من تواصل الحرب، التي تأبى أن تضع أوزارها، قد أثقل نفسياً على المجتمع الصهيوني، مما أفضى إلى محاولات الصهيونيين الفرار من الواقع عن طريق إنكاره. وهو ما تجسد في ظهور أطروحات غير واقعية، توفر إحساساً مضللاً بوجود ثمة مخرج، دون أن تحقق أي نتيجة. وتعد الدعوة إلى "تدمير غزة" أولى مظاهر الإنكار التي أبداها المجتمع الصهيوني، وهي الدعوة التي يعي أصحابها أنها غير ممكنة. أما مظهر "الإنكار" الثاني، فيتمثل في بحث قطاعات من الصهيونيين عن "عدو داخلي"، لذلك اتجه المجتمع إلى "شيطنة" كل من يصدر عنه سلوك يفسر على أنه "تعاطف" مع الفلسطينيين، حيث يجري اتهامه بـ"الخيانة".([30])
في الختام، يمكن القول أن دولة الكيان – تحت قيادة نتنياهو – قد فشلت بالفعل في إدارة مرحلة ما قبل الحرب على غزة، وما قد يعود لضغوط المعسكر اليميني داخل الحكومة وضغوط الرأي العام، وكذلك فشلت في إدارة الحرب خاصة على المستوى الاستخباراتي، وما أدى إلى سلسلة من الإخفاقات، لم يكن أكثر المتشائمين يتوقعها قبيل الحرب.
ولكن لا شك أن فصائل المقاومة الفلسطينية قد حققت نجاحات غير مسبوقة، بدأت منذ أن استطاعت فرض أجندتها العسكرية على القيادة السياسية لفتح وحماس، وأصبحت المتحكم الفعلي في تحريك مفاصل المشهد الفلسطيني، وهو ما أنتج تقدم عسكري واصطفاف سياسي من جانب فتح وحماس خلف أجندة المقاومة.