حماس وديمقراطية أوسلو
لو كانت حماس انقلاباً على الشرعية كما ردد كثيرون طوال عام مضى، لما عجز الشارع الغزي بحيويته المشهودة عن الإطاحة بها، لا سيما أن الطرف الآخر ليس جحافل من الغاضبين فحسب، وإنما مجموعات سياسية وأمنية تعد بعشرات الآلاف لها خبرتها الطويلة في مختلف الميادين، تحرسها أجهزة إعلام متحفزة في الضفة الغربية والخارج.
لكن حماس لم تكن كذلك، ليس فقط لأنها فازت في انتخابات رفض الطرف الآخر دفع استحقاقاتها، بل أيضاً لأن للشارع الغزي معها سيرة طويلة عمرها عشرون سنة قدمت خلالها خيرة أبنائها وقادتها في ميدان البطولة والشهادة، في ذات الوقت الذي سجلت فيها سيرة عطرة من التعاطي مع الناس وهمومهم وقضاياهم.
لكن هذا التعاطف الذي أبداه القطاع الأكبر من الناس مع حركة رائعة استهدفت من دون وجه حق، الأمر الذي انعكس على صبره وصموده المترتب على حصارها، هذا التعاطف لا يخفي بحال حجم الورطة التي وجدت حماس فيها نفسها بعد الحسم العسكري، وقبل ذلك إثر فوزها في انتخابات جاءت مشاركتها فيها برضا الجهات المعادية، حتى لا نقول تشجيعها المبطّن.
كل ما جرى بعد قرار المشاركة هو جزء من تداعيات القرار، فهنا ثمة سلطة صممت لخدمة الاحتلال ولن يكون بوسعها تمرير أي شيء من دون أن يصبّ في صالحه، ومن ضمن ذلك العملية الانتخابية.
من المؤكد أن واقع قطاع غزة الجديد المتمثل في خروج قوات الاحتلال بالكامل قد ساهم أكثر من سواه في اتخاذ قرار المشاركة في الانتخابات، إذ لم يستوعب قادة القطاع أن يصب حصاد الانسحاب الإسرائيلي في جيب مجموعة تعادي حماس ويمكن أن تستهدفها خلال المرحلة الجديدة كما فعلت من قبل أيام أوسلو.
أياً يكن الأمر، فقد كان اجتهاداً له دوافعه ومبرراته، حتى لا نغمط أولئك القادة حقهم، هم الذين جاهدوا طمعاً في الآخرة وليس في الدنيا، ودفع أكثرهم من التضحيات ما دفعوا، وما زالوا إلى الآن يدفعون، لكن ذلك لا يغير في واقع أن القرار كان خاطئاً، أقله من وجهة نظرنا، الأمر الذي لن يتغير لو جاءت نتيجة الانتخابات كما كان مخططاً لها: فوزاً لفتح وحلفائها، مع حصول حماس على نسبة معقولة.
ربما لو حصلت حماس على النتيجة التي حصلت عليها وقالت إنها تأكيد لشرعية للمقاومة ثم تركت الأمر للسلطة وفتح لكان المشهد مختلفاً، لكن المسار الذي اتخذ قرار المشاركة في سياقه لم يكن يسمح بذلك.
الآن تتأكد الورطة عبر جملة من الأسئلة أهمها ما الذي يمكن أن تفعله حماس في ملف المصالحة والقطاع والتهدئة والحصار؟، إن الوضع القائم لا يحتمل الكثير من الخيارات: فإما أن يبقى القطاع تحت الحصار منفصلاً عن الضفة تسيطر عليه الحركة، أو يخرج عملياً من دائرة الصراع مقابل فتح جزئي للمعابر، وإما تقبل الحركة الاحتكام لانتخابات جديدة لن تكون نزيهة كسابقتها، أكانت مبكرة أم في موعدها في ظل قانون القائمة النسبية الذي تريده كل الفصائل. وفي هذه الحال يرجح فوز فتح وحلفاؤها، مع أن فوز حماس لن يحل المعضلة لأن الحصار سيعود من جديد بينما تبقى الديمقراطية العتيدة تحت رحمة الاحتلال: يتركها إذا خدمت برنامجه، ويلغيها باعتقال رموزها إذا كانت غير ذلك، لا سيما في الضفة الغربية.
ليس أمام حماس والحالة هذه سوى تقديم طرح وطني شامل يؤكد على أن وجود سلطة على النحو القائم هو مصلحة للاحتلال، فإما حلّها وإعادة الصراع إلى وجهه الحقيقي، وإما سلطة مقاومة تدار بالتوافق لخدمة برنامج المقاومة.
من الواضح أن شيئاً من ذلك لن يحدث في المدى القريب، وذلك بسبب تمسك الطرف الآخر بخيار (السلطة ـ الدولة)، مع المراهنة على المفاوضات، ما يعني استمرار المراوحة إلى حين بروز معطيات جديدة في الوضع الداخلي (الفتحاوي تحديداً)، وكذلك العربي والإقليمي والدولي تسمح بتغيير هذه المعادلة البائسة.
إنه ليس مأزق حماس، بل مأزق القضية برمتها في ظل مسار أوسلو وما ترتب عليه، ويبقى أن حركة لها كل هذا التاريخ الرائع وتضم جحافل من أروع الرجال ستبقى فاعلة في مشهد الصراع حتى يأذن الله بالنصر.