المخابرات والعالم

علّم أخوه التجسس . . فاحترف

المجد –

عالم المخابرات والجاسوسية عجيب كل العجب. إنه بالفعل يفتقد العواطف. . ولا تصنف أبداً تحت سمائه، حتى وإن بدت المشاعر مشتعلة متأججة.. فهي زائفة في مضمونها، ووجودها فقط لخدمة الموقف ثم تنتهي الى أفول.

سمعنا عن جاسوس جند أباه. وكتبنا عن جاسوس جند زوجته وأولاده، لكن بطل قصتنا هو جاسوس جند شقيقة المجند بالقوات المسلحة المصرية، ليحصل على المعلومات والمال.

كلها قصص تؤكد أن علاقات الدم والرحم ومشاعر الحب تتوه بين غمام عالم الجاسوسية الغامض . . وتمحي . . في لحظة يغيب فيها العقل .. ويغتال الانتماء.. !!

بالرغم من التنسيق الاستخباري الامريكي الصهيوني الذي وصل الى أعلى المستويات . .فقد جاءت حرب أكتوبر 1973 لتثبت عجز المخابرات الصهيونية والامريكية وهزيمتها معاً إزاء هذه الحرب المفاجئة.

هذا التقييم الغير صحيح للمعلومات التي تجمعت لدى المخابرات الصهيونية، والتي وصلتها قبل الحرب بمدة كافية وتتعلق بالحشود المصرية والسورية، أكد على تقصير المخابرات الصهيونية في تحليل النوايا العربية. والاستعدادات العسكرية التي سارت بخطوات دقيقة وسرية للغاية، وخدعت أجهزة المخابرات الصهيونية والأمريكية.

وبعد توقف الحرب، عمدت الحكومة الصهيونية الى التحقيق في كارثة يوم الغفران وشكلت لجنة "إغرانات" لتحديد موضع الخلل والتقصير. . وقد رأت اللجنة أن الاستخبارات العسكرية هي المسؤولة عن تقييم نوايا وقدرات القوات العربية.

ولذلك، نشطت أجهزة المخابرات الصهيونية المختلفة. . وعملت على تلافي هذا الخطأ المدمر الذي راح ضحية له آلاف الجنود والضباط، وسبب الذعر في كل أرجاء دولة الكيان، وقررت ألا تترك معلومة، ولو تافهة صغيرة، إلا وحللتها وتأكدت من صحة ما جاء بها. وذلك من خلال تجنيد طابور طويل من العملاء والجواسيس في كل البلاد العربية. . يمدون دولة الكيان بجسر متصل من المعلومات السرية يومياً، فتستطيع بذلك تدارك أية كوارث أخرى قبل وقوعها. وكان لا بد من القيام بعدة انتصارات هامة. . تعيد الثقة الى هذا الجهاز الذي أثبت فشله في التنبؤ بحرب أكتوبر.

وعلى هذا الأساس .. صعّدت قيادة جديدة لأجهزة المخابرات الصهيونية، تتعطش لإثبات جدارتها ومقدرتها، وأخذت على نفسها أمر حماية دولة الكيان من الخطر الدائم المحيط بها. ورصدت ملايين الدولارات تحت تصرف هذه الأجهزة. وكان للموساد نصيب أكبر منها لتجنيد العملاء والجواسيس، وشراء ضعاف النفوس في كل مكان.

ولم تعد المخابرات الصهيونية تلقى بالاً للعناصر التي تعيش على هامش الحياة، بل سعت لتجنيد البارزين في المجتمع، ومن ذوي المراكز الدقيقة الهامة. إذ لم يعد عمل الجواسيس مقصوراً على الإنصات الى ثرثرات سكير في حفل ماجن.. أو مخاوف جاهل بالأمور يدعى المعرفة بكل شيء، وإنما أصبحت مهمة الجاسوس تتعلق الى حد بعيد بالحصول على الوثائق السرية وتصويرها . . وإعادتها الى مكانها الذي أخذت منه. . ومن ثم إرسال ما صوره الى مركز اتصاله.

وأيقنت المخابرات الصهيونية أن المعلومات المجموعة .. سواء بالوسائل البشرية أو التقنية، لا تكتسب قيمتها الكاملة .. إلا بعد الدراسة والتحليل والتركيب والاستقراء من قبل خبراء أخصائيين على مستوى عال من العلم والخبرة.

وبسبب الخوف من "مفاجآت" العرب الغير سارة، أطلقت دولة الكيان جواسيسها داخل البلاد العربية، يجمعون لها الأسرار العسكرية والصناعية. . وكل ما يتصل بأمور الحياة اليومية بما فيها أرقام هواتف وعناوين المسؤولين.

وهذا ليس عبثاً من جانب العدو، إنما هو عمل مخابراتي أصيل، وتخريبي يؤدي الى نتائج خطيرة فيما لو أتيح استعمال هذه المعلومات. . فعملاء دولة الكيان السريين لا يتورعون عن ارتكاب أية جريمة مهما كانت حقارتها لتحقيق أهدافهم ومهامهم.

بداية القصة

في الثاني عشر من مارس 1929 ولد "السيد محمد محمود محمد" بالاسكندرية لأسرة ثرية يعمل معظم أفرادها في "البحر". وانصرف عن دراسته مبكراً ولم يحصل على الشهادة الاعدادية، فكان شغفه بالبحر أعظم من التحاقه بالمدرسة.

وكان عمله في ميناء الاسكندرية قد أتاح له من خلال عائلته  الارتباط بصداقات عديدة بالعاملين بالميناء، ومعرفة أدق التفاصيل عنه، ومرت به الأعوام وهو يكبر بين أصحاب المهنة وتتسع علاقاته واتصالاته واستثماراته، وخبرته بالشؤون البحرية، لكنة للأسف كان زير نساء اهدر ثروته علي ليالي العهر والمجون.

أثناء توقف الباخرة للإصلاح بميناء نابولي الايطالي. . ذهب السيد محمود الى روما. . وبالمصادفة قابله هناك صديق قديم من يهود الاسكندرية اسمه فيتورا . . قال له إنه يعمل ضابطاً إدارياً في شركة السفن التجارية الايطالية، وعلى مدار جلسات طويلة بينهما، عرف ان السيد محمود يعاني من ضائقة مالية وكل أملاكه مرهونة وهو على وشك الافلاس، فقرر ان يساعده ومن هنا بدأ تجنيد السيد محمود بالمخابرات الصهيونية.

سافر برفقة صديقه الى أمستردام رأساً حيث نزلا بفندق "أمريكا" الفخم، وفي الفندق. . زاره الصحفي البريطاني "ميشيل جاي طومسون" – الذي هو في الأصل ضابط مخابرات صهيوني ليتم تجنيده هناك.

الجاسوس المغيب العقل

رجع السيد محمود الى القاهرة ومعه مئات الدولارات. . والعديد من الهدايا وأيضاً، يحمل عدة تكليفات محددة عليه الكتابة عنها بتفصيل. وأغراه ضابط الموساد بمبلغ كبير لكل تقرير مفصل، وما هي إلا أسابيع حتى سافر الى أمستردام مرة ثانية بحقيبته عدة تقارير غاية في الأهمية. وإحصائيات عن حركة ميناء الاسكندرية اليومية.

اندهش رجل الموساد طومسون لغزارة المعلومات التي جلبها تلميذ الجاسوسية الجديد. واهدى اليه حبيبته كريستينا لعدة أيام مكافأة له، فغيبت عقله، فهي دربها خبراء الموساد على التعامل مع المطلوب تجنيده بأساليب شتى تجعله يعشق الجنس. . ويدمنه .

المصير الأسود

ومع جرعة التدريب العالية التي نالها. . عاد السيد لاستئناف نشاطه بشهية مفتوحة ومحفظته متخمة بالأموال . . وحقائبه مليئة  بالهدايا. . وعرف أكثر وأكثر قيمة كل معلومة يجمعها. خاصة المعلومات العسكرية.

ولما كانت مصادر معلوماته العسكرية معدومة.. فكر في تجنيد شقيقه الأصغر "أمين" المجند بالقوات المسلحة. فاستغل حاجته الى النقود فترة تجنيده. . للإنفاق على نفسه وعلى حبيبته التي يستعد للزواج منها، ولعب على هذا الوتر، وكلما أمد شقيقه بالنقود كلما أخضعه له.

لم يكن الأمر صعباً على أمين هو الآخر، وانغمس بسبب المال الى الاستمرار في إمداد شقيقه بالمعلومات والخرائط العسكرية بالغة السرية وتفوق على اخية بجلب المعلومات العسكرية الحساسة.

وعندما رأى طومسون الصور العسكرية واللوحات البالغة السرية. . احتضن الجاسوس الخائن وقال له "سأكتب حالاً بذلك الى دولة الكيان وسأطلب لك مكافأة سخية" وجاء الرد من "تل أبيب" يفيض كرماً وسخاءً.

كانت حرب أكتوبر قد انتهت. وكثف أمين من نشاطه في تصوير المستندات العسكرية والخرائط قبل خروجه من الجيش الى الحياة المدنية. وحرمانه من المبالغ الخيالية التي يحصل عليها من شقيقه، وهذا ما أوقع بالخائن وبشقيقه في قبضة المخابرات المصرية .

فقد حامت شكوك حوله مصادر المال الذي ينفقه أمين بشراهة، ولفت انتباه أحد زملائه اهتمامه بالحجرة التي تحوي تصميمات هندسية سرية لممرات الطائرات في المطارات الحربية. . وقواعد يجري إنشائها في عدة مواقع سرية.

ووصلت الشكوك الى القائد الذي جمع التحريات عن الجندي أمين . . فاتضح له أنه يغدق بالهدايا على زملائه. .وأقام صداقات قوية للحصول على إجازات من القوات المسلحة يقضيها في اللهو والمجون.

وبوضعه تحت المراقبة هو وشقيقه السيد، وكانت النتيجة الحتمية سقوطهما في قبضة المخابرات المصرية وهما في غفلة من الزمن لا يتصوران أن أمرهما قد ينكشف في يوم من الأيام.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى