عبرة في قصة

اشهر جاسوسة عربية… الفصل الرابع عشر الشركاء

الفصل الرابع عشر


الشركاء


انتهت اعترافات خديجة زهران، حيث أدلت بأدق تفاصيل علاقتها بأمينة المفتي، وبزوجات الضباط الفلسطينيين في بيروت. أما مارون الحايك المذعور فقد أوضح الكثير عن ملابسات علاقته بأمينة، وعثر ببيته على قائمة طويلة تحوي الأرقام السرية لتليفونات قادة المنظمات الفلسطينية، إضافة الى ملف كبير يتضمن خلاصة تجسسه على تليفوناتهم خلال فترة اعتقال أمينة. فقد كان يود تقديمه لزعيمته عند عودتها لتمنحه آلاف الليرات، وتغرقه في بحر النشوة عدة ليال. أما الشيء العجيب حقاً فقد وقع بين أيدي رجال المخابرات الفلسطينية شريط تسجيل أخفاه مارون بجيب سري بإحدى الحقائب، لمحادثة تليفونية كاملة بين علي حسن سلامة وأبو داود، وفيها تفاصيل كثيرة عن أمينة المفتي المعتقلة آنذاك ببيروت، هذا الشريط لم يقم مارون بتفريغه أو الاستماع اليه، ولو أنه كان قد فعل ذلك لأدرك الخطر وهرب بجلده ومعه شريكاه. لكنه اعترف بأن هذا الشريط هو الوحيد الذي لم يفرغ وعندما قام بتسجيله كان منهمكاً في التنصت على مكالمة أخرى بين ياسر عرفات ونايف حواتمة.


وبانتهاء التحقيق مع خديجة زهران ومارون سلما الى السلطات اللبنانية لمحاكمتهما، طبقاً لقانون العقوبات الذي عُدل في 28 يناير 1975، وجاءت مواده الجنائية مائعة وغير رادعة.


أما أمينة المفتي .. فقد امتنع الفلسطينيون عن تسليمها للبنانيين، حيث قرروا لها مصيراً آخر، ولم يستجيبوا لضغوط وزير الداخلية اللبناني لمحكامتها. وأمام الرفض التام لذلك . . اضطر الوزير لنسيان الأمر برمته. فقد كان يدرك بأن هناك نهاية مأساوية تنتظر عميلة الموساد على أيدي الفلسطينيين. وعلى ذلك . . ظلت الجاسوسة العربية مقيدة بكهف السعرانة، يفتك بها الرعب ويغلفها الهلع . . !!


الموت البطيء


وحدها، انكمشت أمينة في محبسها بكهف السعرانة تنتظر الموت مع كل لحظة، يحاصرها إحساس بالخيبة بعدما أفلت مارون وخديجة من براثن الفلسطينيين، وتولت أمر محاكمتهما السلطات اللبنانية أمام محاكمها المختصة. لقد كانت تدرك عن قناعة أن زعامتها للشبكة هو سبب بقائها بالكهف دونهما، وبالتالي فإن مصيرها المجهول بين أيدي الفلسطينيين سيكون أشد قسوة وشراسة، لكنه على أية حال لا يساوي أبداً مع بشاعة جرمها. فبرغم اعترافاتها التفصيلية بالتجسس لحساب الموساد، إلا أنها أخفت عنهم الكثير من الأسرار، بالطبع هي أسرار بالغة الأهمية ستزيد ملفها تخمة، وقطعاً سينقلب اعتقاد الفلسطينيين في كونها جاسوسة كانت ضحية مغامرة عاطفية، الى جاسوسة عدوانية ترى في خيانتها نوعاً من الانتقام والتشفي، ذلك لأنها لم تنس يوماً مدى كراهيتها الشرهة للفلسطينيين، تلك الكراهية التي يحملها القوقازيون في الأردن لهم. فهي شركسية من سلالة هؤلاء الذين فروا من جبال القوقاز الى الوطن العربي، وكانت أسرتها تعمل في خدمة الملك حسين، شأنها في ذلك كشأن القوقازيين الذين يعملون في جيشه، واشتبكوا مع الفلسطينيين في حرب ضروس عام 1970، فاعتبرهم الفلسطينيون أعداء لهم، وهاجموا الأحياء التي يقطنوها فتبادلا الشعور بالكراهية تجاه بعضهم البعض. هكذا بدت كراهية أمينة للفلسطينيين ذات جذور، وهكذا أينعت مشاعرها وهي تهدي إلصهاينه معلومات لا تقدر بثمن عن تحركاتهم ومخازنهم وعملياتهم.


وخلا ملف الاعترافات من توصلها لأسرار مخازن الهلال الأحمر التي يديرها شقيق ياسر عرفات، ففي هذه المخازن كانت تخبأ الأسلحة الخفيفة، والأسلحة المضادة للصواريخ في صناديق المهمات الطبية، مما جعلها دائماً عرضة للعمليات الجوية الصهيونيه بناء على وشاياتها. . وأخفت أمينة أيضاً سر اختطاف الصهاينه لطائرة الخطوط الجوية اللبنانية “الشرق الأوسط” في 10 أغسطس 1973، وإجبارها على الهبوط في تل أبيب فقد كانت هي التي أبلغت الموساد بوجود جورج حبش على متنها، لكن حبش كان قد أصيب بأزمة قلبية منعته من ركوب الطائرة. . وقتها . . تأكد للفلسطينيين أن هناك اختراقا ًصهيونيا لمنظماتهم، وجرى مسح شامل لمئات الأشخاص دون جدوى. ولم تكن أمينة في ذلك الوقت قد وقعت في دائرة الشك، فقد كانت مشبعة بثقة الفلسطينيين، حيث تعمدت ألا تظهر عداء مبالغاً فيه للصهيونية، وفي مناسبات مختلفة كثيراً ما عبرت عن رأيها في حق اليهود في امتلاك الأرض أيضاً. فأبعد ذلك التصرف الشكوك من حولها، فأي عميل للصهاينه سيبذل ما بوسعه ليبدو عدواً لدوداً للصهيونية. لذا غادرت بيروت في حذر في جولة تفقدية، واستطاعت أن تمد الموساد بصور لمراكب وسفن الصيد واللنشات التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية، والراسية بمينائي صيدا ورأس شكا في الجنوب والشمال، والتي كانت معدة للعمليات الهجومية البحرية، ومكنت العدو بذلك من تدمير ثلاثين قطعة منها في عملية انتقامية، وجاء ذلك بعد هجوم منظمة فتح البحري على المدينة الساحلية “نهاريا” عام 1974.


كل تلك الأسرار جاءت مفصلة بمذكرات أمينة المفتي التي نشرت في فلسطين فيما بعد، فأضفت على جاسوسة الموساد هالة من الأساطير صعدت بها الى آفاق الخوارق، ونسبت اليها عمليات وهمية مختلفة عن اكتشافها مؤامرة لاغتيال السادات بوساطة الليبيين عام 1976، مهدت الطريق لكامب ديفيد بين مصر وإلعدو ، وكانت أمينة وقتذاك مكبلة بالجنازير الى الحائط داخل كهف السعرانة في جنوب لبنان، تنتظر نهايتها المرتقبة كالموت البطيء.


أحلام . . ورصاص


وما أن نشرت الصحف اللبنانية نبأ القبض على أمينة المفتي وأفراد شبكتها، حتى ارتجت جنبات الموساد بشارع كيريا بتل أبيب. وبدأت في الحال تخطيطاً لاستعادة العميلة الأسطورية. فتاريخ الموساد الطويل يسرد لنا عشرات القصص التي انتهت باسترداد جواسيسها، الذين اكتشف أمرهم وكانوا على قيد الحياة. ولهذه القاعدة تبرير منطقي وهو أن إنقاذ أي عميل يرفع الروح المعنوية للعملاء الآخرين، ويشجع الرجال والنساء على القيام بعمليات ومهام خطيرة أخرى. ولأن الفلسطينيين يدركون ذلك جيداً، رأى عرفات أن الإبقاء على أمينة بكهف السعرانة أمر ضروري حتى يحين الوقت المناسب لتقرير مصيرها النهائي، نابذاً بذلك رغبة علي حسن سلامة في إعدامها.


فقد كانت لعرفات رؤية مستقبلية بعيدة المدى، تنحصر في التريث لبعض الوقت، ومبادلتها بشخصيات فلسطينية بسجون العدو. لكن سلامة الذي بدا غير قانع كان يرى في قتلها فوزاً أكيداً، إذ سيصاب عملاء العدو في لبنان بالذعر، وبالتالي يسهل كشف العديد منهم إن لم يسارعوا بمغادرة بيروت. ولما فشل في إقناع عرفات بوجهة نظره، اضطر الى السكوت وكبح اندفاعة الشباب عنده. وبذلك ظلت أمينة حبيسة الكهف الجبلي، ترسخ في قيود الذل دون محاكمة، أو بصيص من أمل في النجاة. وفي ذات الوقت الذي أدين فيه مارون الحايك بالحبس ثلاثة أعوام، وبعام واحد لرفيقته خديجة زهران – “راقب ميوعة الحكم في قانون العقوبات اللبناني . . !!”


نسجت أمينة المفتي خيوط شبكتها حول أحد حراسها، وأوهمته بأنها بريئة مما نسب اليها، وأن الفلسطينيين فعلوا بها ذلك نكاية في عمها الذي يشغل منصباً حساساً في البلاط الملكي الأردني، حيث تصور لهم أنه كان أحد المحرضين لمذابح أيلول الأسود. وبعد عدة أشهر – في مايو 1976 – كان غسان الغزاوي قد اقترب كثيراً من أمينة، وتعاطف مع محنتها الى الحد الذي دعاه للتفكير في تخليصها من السجن، وإن استدعى منه ذلك الهرب بها الى فلسطين . لقد انقلبت ورديته في الحراسة الى جلسة غرام تصطخب بالمشاعر والأمنيات. فكانت أمينة تمنحه جرعات متصاعدة من الأشواق واللهفة، تطيح بعقله وتعبث به الى دنيا جديدة من أوهام التمني. ولأنه نجار خائب لا يجيد صنعته، عاش سني حياته الثلاثين في حالة حرب دائمة مع الحياة بحثاً عن عيشة رغدة مريحة، لكن هيهات أن يراها كسول مثله، أوقف خبرته عند حد معين لم يستطيع تجاوزه، فتقهقرت إرادته وانزوى منسياً بين جدران جحره الرطب بمخيم الرشيدية في صور، يجرع الجوع واليأس ناقماً على حظه وعلى الدنيا كلها.


إن فاشلاً مثله استعبده الفقر والجهل من السهل جداً إغواؤه والسيطرة عليه مادياً أو عاطفياً، فهو في الأصل لا يمكن أن يكون مؤمناً بقضيته أو مستوعباً لرسالة الكفاح من أجلها، ذلك لأنه أرجع فشله الى كل تلك الظروف التي تحيط به وبشعبه. ووطن نفسه على أنه مجرد ضحية لا ذنب له لكي يعيش معدماً شريداً، يفتقد أبسط مظاهر الحياة وأقلها ترفاً. هكذا قرأته أمينة وتسللت إليه في سهولة ما أيسرها على متخصصة في علم النفس مثلها، وأغوته بمكذوب العواطف تصبها صباً في أذنيه، فأذابته تماماً وهو المحروم اللاهث خلف الأحلام، وترقب عن كثب انسكاب مقاومته الخائرة، واستفحال رغبته في تخليصها أملاً في حياة هنيئة بفلسطين . فكانت هي بذلك أول عميلة للموساد على الإطلاق، تجند حارسها في السجن للفرار بها الى خارج حدود الدولة. وجاء بمذكراتها فيما بعد أنها كانت تنوي النجاة بنفسها فقط، وتركه على الحدود يواجه مصيره وحده مع الفلسطينيين، حيث ستحاك الأساطير الصهيونيه عن قصة هروبها العبقرية. لكن خابت أحلامها في المجد والتكريم.


وخابت أحلامه أيضاً في الثراء والنعيم، عندما أفضى بسره الى أحد رفقاء فقره في المخيم، الذي أبلغ السلطات الفلسطينية عنه وتمت مراقبته، وضبط وهو يحاول إدخال بزة عسكرية الى الكهف لترتديها أمينة أثناء الهرب. وانتهت أحلام الخائن برصاصات أخترقت صدره في أكتوبر 1976، وبتثقيل القيود الحديدية بأيدي الخائنة ورجليها، وشدها الى الحائط مصلوبة وبأقل قدر من الطعام والشراب، الى أن تقيحت أطرافها المختنقة بالقيود، وعمل معول الهزال بجسدها كما يعمل معول النحات الماهر بمادته الصخرية، فعاشت ذابلة كالموتى لا يميزها عنهم سوى ارتعاشة الأطراف، وزوغان حدقتين لا تبصران إلا الخوف والظلام . . !


 





























انتقال سريع (اضغط على الرقم للإنقال)

فهرست123456789
10111213141516171819

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى