استحضار دور بريطانيا في فلسطين
كُتب الكثير عن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني وقد اتسم غالبية ما كتب بالنفحة الأيديولوجية، إلا أنه نادراً ما تمت مناقشة مسؤوليّة بريطانيا الكبيرة عن أحداث 1948 بشكل مباشر، سواء من منظارٍ جدلي أو من منظارٍ أكثر أكاديميّة. وبالتالي، كان من غير المألوف أن أحضر مؤتمراً خصص بالكامل لطرح قضيّة «فلسطين وبريطانيا والإمبراطورية» في معهد «كينغز كولدج» في لندن، في منتصف أيّار (مايو) الماضي. كما كان من الممتع جدّاً ملاحظة كم من الأبحاث الهادئة القائمة على العودة إلى أرشيف تلك الفترة قام بها باحثون شبّان، يُعتبَر التزامهم بالعواطف القديمة وتجربة الحجج المبتذلة أقلّ إلحاحاً من التزام العديد من زملائهم الأكبر سنّاً.
وبدت لي ثلاثة خطوط جديدة من النقاش ذات أهمّيّة خاصّة. الخط الأول هو الدّور الذي اضطلع به الانتداب الدّولي نفسه، وهو موضوع غالباً ما صُرِف عنه النظر، على اعتبار أنّه تافه مقارنةً بالأهمّيّة الجليّة لفلسطين كشبه مستعمرة. مع ذلك، وكما أشارت إليه دراسة بعنوان «صلاحيّات نظام الانتداب وإجراءاته»، فإنّ النص على وعد بلفور في وثيقة الانتداب نفسها قلّص إلى حدٍّ بعيدٍ صلاحيّات بريطانيا في المناورة، وبخاصّةٍ في منتصف الثلاثينيّات، حين أصبح واضحاً أنّ فلسطين تضم مجتمعين متناقضين، غير قادرين على الاتّفاق على شيء تقريباً.
ثمة مثالٌ واضحٌ يجسّد الكبرياء الإمبريالي على الأرض، إذ بدأت بريطانيا في العشرينات تتصور أنّها تستطيع التلاعب بالانتداب وباللجنة الدائمة للانتدابات في عصبة الأمم لمصلحتها الشخصيّة، لتكتشف في النهاية أنهما أصبحاً عبئاً ثقيلاً عليها، وبنوع خاص عندما أصبحت دول أعضاء أساسية في اللجنة تُعرف بدعمها الموقف الصهيوني في العقد التالي.
كذلك، بدا تواطؤ بريطانيا جلياً في تقسيم فلسطين في دراسةٍ ثانيةٍ وعنوانها «تقرير لجنة بيل والتقسيم المقترَح 1936 – 1938»، إذ قام أعضاء هذه الهيئة الرفيعة المستوى بتقصي أسباب ثورة 1936 الفلسطينيّة واكتشاف كم كانت ضئيلة الجهود التي بُذلت لمحاولة توليد شعورٍ بالانتماء الفلسطيني المشترك بين الفلسطينيين واليهود، معتمدين التقسيم، بحسب اعتقادهم، على أنه الخيار الواقعي الوحيد. وازداد الأمر سوءاً إذ انه في المصطلحات المستخدمة في ذلك الوقت، كان يشار إلى الفلسطينيين على أنهم «عرب»، وبالتالي، لا يعود ولاؤهم إلى دولة فلسطين، بل إلى الوطن العربي بمعناه الواسع، الخارج عن نطاق حدودها.
ونتيجةً لذلك، لم يتمّ منحهم دولة مصغّرة خاصّة بهم في اقتراح اللجنة، بل واحدة مشتركة مع المنطقة الواقعة شرق الأردن.
ثالثاً، أظهرت الدراسات الثّلاث حول الشرطة الفلسطينيّة والوسائل التي تمّ استخدامها لوضع حدٍّ لثورة 1936 – 1939، ليس فقط أهمّيّة أساليب مكافحة التمرّد الوحشيّة المستوردة من تجربة الإمبراطوريّة البريطانية في أيرلندا عام 1922 كما في غيرها، بل أيضاً مدى اللجوء إلى احتياطي القوّات اليهوديّة المسلّحة من الجهة البريطانيّة، والتي بلغ عددها الإجمالي 18 ألف جندي، وقد ساهم هذا الأمر بشكلٍ أساسي في تأسيس منظمة «الهاغاناه» المسلحة التي كان يفترض أن يبقى نشاطها سرياً.
أما أحد الأشخاص البارزين في هذا الإطار فقد كان الجنرال برنارد مونتغمري، قائد الوحدتين العسكريّتين البريطانيّتين في الشمال، اللتين وُجدتا لإنهاء الثورة. وقد انتهز الفرصة ليطور بعض الطرق التي كان قد اكتسبها للمرّة الأولى أثناء العمل في جنوب أيرلندا، ليشجّع كذلك ما يسمّى بـ «فِرق الليل» التي غالباً ما كانت تضمّ جنوداً بريطانيين وقوّاتٍ يهوديّةٍ اقتصر دورها على وضع الكمائن ومطاردة الفلسطينيين المخالفين وخطف رهائن وشنّ الهجمات الاستباقيّة، عند الاقتضاء، على القرى التي يعتبرونها خطرة وخائنة.
ما لا شكّ فيه أنّ الحافز الأساسي وراء الأبحاث الأكاديميّة المماثلة هو ازدياد الاهتمام العام بالسياسة الإمبراطوريّة التي شجّعتها الحرب في العراق. بالإضافة إلى ذلك، وفي فلسطين تماماً كما في العراق، بُذلت الجهود كافّة لمنع الشعب من الاطّلاع على أكثر المظاهر السيّئة لما كان يحصل، لتُبثّ المعلومات إلى البيوت بعد تعديلها. وبالفعل، لم يمنع مونتغمري وسائل الإعلام من الدّخول إلى ساحة عمليّاته العسكريّة فحسب، بل حظر على الصحافيين بنوعٍ خاص التقاط صور منازل المحاربين الفلسطينيين، أو المحاربين المزعومين، التي تم تفجيرها لتكون عبرةً للمحاربين الآخرين.
ولم يكن ممكناً فهم هذه التكتيكات في إطارها الإمبريالي الخاص الا بالرّجوع إلى الموضوع بعد حوالي ستّين عاماً تقريباً، واستخدام الأرشيف البريطاني وسجلات الجنود والشرطة التي كانت موجودة في ذاك الحين. بهذه الطريقة فقط يمكن أن ينسف المرء الأسطورة التي لا تزال قائمة حول الرائد أورد وينغايت، مؤسّس الفرق الليليّة المزعوم، الذي يحاول الخطاب الصهيوني على الأقل تحويله إلى الضابط البريطاني الوحيد الذي كان يدعم اليهود ضد الجانب الفلسطيني.
من شأن المستندات التي تم التحدث عنها خلال المؤتمر، في حال تمّ نشرها، أن تساعد على فهم السلوك البريطاني حيال الانتداب على فلسطين. غير أنّ ثمة الكثير من العمل الذي ينبغي القيام به لتوفير شرحٍ مفصّلٍ حيال ما وصفه دايفيد فيلدهاوس، أحدث المؤرّخين لفترة الإمبراطوريات في الشرق الأوسط، بـ «الفشل الإمبريالي الأكثر إذلالاً» لبريطانيا. وقد طرحت بنفسي سؤالاً ذات صلة وثيقة بالموضوع عن الجهود التي بذلت بين قرار الأمم المتحدة القاضي بالتقسيم، الصادر في تشرين الثاني (نوفمبر) 1947 وخروج القوات البريطانيّة الأخير في أيّار(مايو) 1948 لتسليم مختلف الأصول التي كانت للحكومة الفلسطينية إلى ممثّلي أحد الطرفين المتحاربين. وفي حين أنه من البديهي أن ترث “إسرائيل” القسم الأكبر من هذه الأصول، وبنوعٍ خاصّ وزارات الحكومة وسجلاتها كافةً، تعتبر الطرق التي استخدمت لهذا الهدف مجهولةً نوعاً ما وقد بقيت نتائجها غير متداولة.
هل كانت النتيجة لتختلف وبخاصّةٍ مع تسلّم النازيّين الحكم في ألمانيا عام 1933؟ ليس إلى حد بعيدٍ، حسبما استنتجته من آراء غالبية من حضروا المؤتمر. وقد أفادت هذه الآراء أن مجرد الإعلان عن وعد بلفور في العام 1917، أو إدراجه في ميثاق عصبة الأمم عام 1922، جعلا من تقسيم فلسطين الجديدة أمراً لا مفرّ منه. أمّا بالنسبة إلى أساس الوعد نفسه، فقد ورد في أحد البحوث المهمّة أن يحدَّد إطار هذا الوعد، ليس لمصلحة إمبرياليّة فحسب، بل أيضاً لمصلحة التوافق الناشئ بين الدول الكبرى التي انتصرت بنهاية الحرب العالمية الأولى (1914 – 1918) في عالم يضم شعوباً ذات أهداف واحدة – البولونيون والأرمن والأيرلنديون واليهود – الذين لا يمكن تلبية تطلّعاتهم إلا بالحصول على حق تقرير مصيرهم. ونظراً إلى هذا الهاجس الدولي الكبير، فإنّ الفلسطينيين، الذين تعتبرهم بريطانيا وسائر الدول الكبرى مجرّد عرب، لم يكن لهم حظ كبير.