التنظيمات الوهمية: حين يتقمص رجل “الشاباك” دور المقاوم (الجزء الأول)
المجد – وكالات
الساعة الثالثة فجراً.. ينتشر في المكان الصقيع، فيما يتحرك جنود الاحتلال بخلسة على شكل مجموعات، المخيم بأكمله غارق في النوم والظلمة، أمام خمسة أبواب يقف الجنود متراصين ومتسلسلين على استعداد للحظة الصفر.
لحظات ويدوي في الجو صوت انفجار، فقنبلة ضوئية، وابل من إطلاق الرصاص، وتداهم قوات الاحتلال المنازل، تفزع سكانها الآمنين، وتسأل عن اسم شابٍ معين، تعصب عينيه وتقتاده خلال عشر دقائق إلى جيبٍ عسكري متوغل في زقاق جانبي.
بعد سويعات سيكتشف الشاب "س.ع" أنه اعتقل برفقة أصدقائه و"خليته" التي اتفق معها على تنفيذ عملٍ مقاوم في صباح الغد، مدعماً بالصور والتسجيلات والأسماء والأرقام، سيسقط الشاب في متاهة فزعه، خاصةً حين يكتشف أنه جند رفاقه للعمل لصالح تنظيم وهمي يقوده ضابط للشاباك الصهيوني، تلاعب بهم كفراشات ريثما وقعوا في أتون النار.
ليست قصة متخيلة، إنها الحقيقة التي لا إحصاءات ولا أرقام تثبتها سوى شهادات الأسرى المحررين من سجون الاحتلال عن أعداد الشباب الذين يتم اعتقالهم في السجون لفترات طويلة، وإن كان بعض الشباب قد انتهى به الأمر إلى السجن فالآخرون تم اغتيالهم أو دفعهم لتنفيذ عملٍ مقاوم ضد أهداف وهمية غير ذات ضرر أو القضاء عليهم بتزويدهم بعبوات مفخخة فاسدة.
سياسة التنظيمات الوهمية ليست جديدة إنما هي بقدم العمل التنظيمي المقاوم، حيث يشير يعقوب بيري الذي شغل منصب رئيس جهاز الأمن العام "الشاباك" في الفترة ما بين 1988-1995، في كتابه (القادم لقتلك .. استبق وأقتله) إلى أن هذه السياسة بدأت مطلع سبعينات القرن الماضي، وكان بيري قد ذكر في كتابه نجاعة التنظيمات الوهمية في الإيقاع بخلايا المقاومة في منطقة القرى الشرقية من مدينة نابلس، (بيت فوريك، بيت دجن، عقربا، بيتا) التي شهدت نشاطاً عسكرياً واضحاً لخلايا المقاومة العسكرية، مما دفع الاحتلال لتطوير هذه السياسة إلى حين إخماد جذوة هذه الخلايا.
الكاتب والمحلل ساري عرابي يشير إلى أن سياسة التنظيمات الوهمية تنشط بحسب طبيعة التحديات الأمنية، ويتفاوت الوعي الجماهيري بحسب مستوى التعبئة النضالية والتنظيمية، لكن هذا الأسلوب قديم منذ الانتفاضة الأولى، ونشط في بداية التسعينيات، وتجدد في الانتفاضة الثانية، وهناك مؤشرات على ارتفاع نسبة التنظيمات الوهمية بعد هبة القدس وتصاعد ظاهرة العمليات الفردية.
ما هو التنظيم الوهمي؟
وعن مفهوم التنظيم الوهمي؛ يشير الأسير المحرر "أبو حمدان" إلى أنه عبارة عن مكيدة استخباراتية، يقوم من خلالها رجل الشاباك المتمكن من اللغة العربية والتقاليد الإسلامية والفلسطينية، والذي يملك فهماً بالعقلية السائدة في المجتمع الفلسطيني من انتحال شخصية مقاوم أو مسؤول في التنظيم أو شخص اتصال أو ممول للعمل المقاوم.
يشير أبو حمدان إلى أن رجل الشاباك يشير بطريقة مباشرة وغير مباشرة للضحية (وهو شخص متحمس للعمل المقاوم عادةً) برغبته في تشكيل خلية مقاومة تنفذ أعمال عسكرية ضد الاحتلال، ويطلب منه مهمة تشكيل الخلية ممن يراه مناسباً من الشباب أو الفتية المقاومين أو يقترح عليه مجموعة من الأسماء التي يعتقد "الشاباك" أنها طموحة للعمل المقاوم، ثم يبدأ بتكليفه بعدد من المهام البسيطة والتدرج فيها حتى اللحظة التي يقرر فيها "الشاباك" إنهاء اللعبة، فيقوم باعتقال الخلية أو اغتيالها.
وما زال هذا المفهوم فضفاضاً حتى اللحظة، خاصةً أن تطور وسائل التواصل ساهم في تنوع طرق وأساليب الشاباك، كما أن طرق التواصل وآليته تختلف باختلاف الشخص المستهدف وطبيعته الفكرية ومرجعيته الدينية والثقافية واستعداده للعمل ومدى وعيه وخبرته الاعتقالية أو الأمنية وحنكته أو سذاجته.
كما يختلف المكلف بمهمة إعداد التنظيم، فأحياناً يشرف ضباط في "الشاباك" على هيكلية الخلية وعملها، وأحياناً أخرى يتم تكليف متعاونٍ "عميل" مع الاحتلال بهذه المهمة، على أن يكون قريباً من صفوف المقاومة.
ما أهداف جهاز الشاباك من إنشاء تنظيمٍ وهمي؟
لكل خلية وهمية هدفها الخاص، وأحياناً تقوم خلية واحدة بعدة أهداف، فمثلاً قد يطلب رجل الشاباك (المتخفي في صورة مسؤول الخلية المقاومة) جمع معلومات عن العملاء ومن يشتبه في سلوكهم؛ وذلك للتأكد من الحصانة الأمنية للمتعاونين معه أو يطلب تأمين حاضنة أمنية للمطاردين ومعرفة من يتردد على بيوتهم والأشخاص الذين يتواصلون معهم ليتم فحص ملفاتهم الأمنية وتحديثها، كما قد يطلب منهم جمع أسماء الشباب المؤهلين للعمل المقاوم، ومحاولة تجنيدهم أو جس نبضهم على الأقل.
حيث يشير المحلل السياسي ساري عرابي إلى استغلال هذه التنظيمات للرغبة الجامحة والصادقة لشبابنا وفتياتنا في تنفيذ أعمال مقاومة، من خلال اكتشاف الطاقات المقاومة وتثبيطها مبكرا، بالإضافة إلى إشاعة أجواء من التشكيك تجاه المقاومة وجدوى الانخراط فيها.
هل تنتقي أجهزة المخابرات الصهيونية الشباب بناءً على معايير معينة، أم أنها تعتمد ضربة الحظ؟
في الغالب يعتمد انتقاء الشاباك للشباب على وجود الدافعية للعمل المقاوم أولاً، ومن تتوفر فيهم وفي ظروفهم القابلية للتجاوب، ربما نتيجةً للمشاكل الاجتماعية أو الرغبة في العمل والأجر المادي أو الانتقام من الاحتلال لاستشهاد قريب أو صديق، ولكن هذا لا ينفي أن الاختيار قد يكون على أسس ومعايير أخرى تختلف باختلاف الظروف الموضوعية للحالة الفلسطينية بشكل عام.
ومن أهم عوامل نجاح التنظيم الوهمي في عمله، هو قدرة رجال الشاباك على استقطاب شخص واحد فقط من أبناء المقاومة يتمتع بسمعة طيبة ويحوز على ثقة مجتمعه وإخوانه وأصدقائه، متعدد العلاقات، مؤهل لتبني فكرة المقاومة وطرحها على غيره، ومتحمس لها، وعادةً ما تكون المخابرات على علم بهذه الرغبة من خلال أحاديث هذا الشخص أمام الأشخاص الآخرين، (فتصل عن طريق العملاء)، أو من خلال منشوراته عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
ما هي آلية استقطاب العنصر الأول والأساسي في أي تنظيم وهمي؟
كما سبق قوله يعتمد نجاح التنظيم الوهمي على استقطاب شخص ثقة من أبناء المقاومة، وهي اللبنة الأولى في تأسيس التنظيم الوهمي، وهناك عدة طرق لاستقطاب الشخص، فقد يتم ذلك من خلال إرسال رسالة له تحمل توقيع: "إخوانك في سجون الاحتلال"، وعادةً ما تكون على شكل كبسولة، ويتم الإشارة فيها إلى خصاله الحميدة التي أهلت القيادة لاختياره للعمل المقاوم.
وقد يتم أيضا من خلال اتصال تلفوني من مجهول، لتسيير أمر من أمور حياته تعرفها المخابرات، مثل التجارة، السكن، واستخدامها كمدخل لمفاتحته بالانضمام للعمل المقاوم، (يقوم رجل الشاباك هنا بإيهامه بأنه رسول من القيادة مكلف بالتواصل معه وتلبية رغبته في العمل المقاوم بعد التأكد من أهليته لذلك، ويقرن هذا الإيهام ببعض المعلومات الدقيقة التي جمعتها المخابرات عنه).
من الآليات أيضاً، إيقاع العصافير بالضحية في داخل السجون، من خلال إيهامه بأن "العصفور" هو قائد كبير أًعجب بروحه النضالية وينوي تكليفه بمهمة مقاومة حال خروج الضحية من السجن، ويشير عليه بالتواصل معه عبر الرسائل "الكبسولة"، أو من خلال وسيط، هو رجل مخابرات آخر أو متعاون.
وقد يكون التواصل عبر مواقع التواصل الاجتماعي مثل الفيس بوك، حيث تقوم المخابرات باختراق الصفحات الشخصية لأشخاص موثوقين في العمل المقاوم، وتتواصل من خلالها مع الأشخاص وتقوم بمراسلتهم وتكليفهم بالمهام، في الأوقات التي لا يستخدم بها صاحب الحساب الأصلي الانترنت (ليلاً مثلاً، أو أثناء غيابه عن المنزل) وتقوم لاحقاً بحذف الرسائل، فلا يدري أن حسابه مخترق ويستخدم لتجنيد الشباب في التنظيمات الوهمية، ولا يعرف الضحية أنه يخاطب ضابطاً في الشاباك وليس مقاوماً معروفاً.
في الجزء الثاني من التحقيق نتعرف على نماذج لشباب فلسطيني وقع في فخ التنظيمات الوهمية، وطرق تجنب الوقوع في هذه التنظيمات، بالإضافة لمعرفة كيف يمكن التمييز بين التنظيم الفعلي والتنظيم الوهمي.