إضاءات في التخطيط الأمني من خلال الهجرة النبوية
المجد -متابعات
لقد جاءت الهجرة النبوية بوحي إلهي في الوقت الذي قرر زعماء مكة اغتيال النبي صلى الله عليه وسلم وقتله، فكانت الهجرة النبوية عبارة عن رحلة مطاردة شاقة للنبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، ومن الملاحظ أن الله عز وجل لم يشأ لنبيه صلى الله عليه وسلم أن ينقله إلى المدينة على ظهر البراق بمعجزة إلهية كما حصل في رحلة الإسراء، وذلك لعلمنا النبي صلى الله عليه وسلم التخطيط والأخذ بالأسباب، وفي هذا المقال نكشف عن إضاءات في التخطيط الأمني النبوي والذي يتمثل في الآتي:
أولاً: مبادرة الجندي في تأمين وسيلة النقل
فعندما علم أبو بكر الصديق رضي الله عنه برغبة النبي صلى الله عليه وسلم في صحبته له في الهجرة "عَلَفَ رَاحِلَتَيْنِ كَانَتَا عِنْدَهُ وَرَقَ السَّمُر أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ" فكانت هذه مبادرة أمنية من الجندي وليس من القيادة ولقد قبلها النبي صلى الله عليه وسلم وكانت الناقة التي أخذها النبي صلى الله عليه وسلم كان اسمها الْجَدْعَاءُ. وهذه المبادرة تعلمنا أن يشعر الجنود بالمسئولية ويشاركوا القيادة بمبادرات تعتمدها القيادة.
ثانيًا: المبالغة في السرية والتمويه لتحقيق الأمن الشخصي والزماني والمكاني
تمثل ذلك في إخبار النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه بساعة الصفر للانطلاق في رحلة الهجرة، ورغم أن عادة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانت أن يأتي دار أبي بكر الصديق رضي الله عنه (أول النهار وآخره)، ولكنه في هذه المرّة جاء صلى الله عليه وسلم إلى داره في (نَحْر الظهيرة) على غير عادته حتى لا يعرف بمجيئه من اعتاد مراقبته في هذين الوقتين. وتقلُّ حركة الناس وقت الظهيرة في مكة لشدة الحر وهو وقت راحة وقيلولة، وفعله صلى الله عليه وسلم يمثل الأمن الزماني في اختيار أكثر الأوقات أمنًا حتى ولو كانت أكثر مشقة، ولمزيد من الخداع والتمويه خرج النبي صلى الله عليه وسلم (مُتَقَنّعاً)، وهذا الفعل يمثل الأمن الشخصي، ولما وصل إلى دار أبي بكر رضي الله عنه خشي أن يكون أحدٌ من المشركين في الدار فيكشف الخطة؛ فأمر أبا بكر بقوله صلى الله عليه وسلم : (أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ) ، وطَمْأَنَهُ أبو بكر رضي الله عنه (لَيْسَ عَلَيْكَ عَيْنٌ، إِنَّمَا هُمَا ابْنَتَايَ). ولو أن مجاهدينا اقتفوا أثر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا التخطيط والفعل الأمنى لما كانت كثير من الاغتيالات الصهيونية التي كانت عبر الاختراق الأمني الشخصي أو الزماني أو المكاني، رحم الله شهدائنا.
ثالثًا: الخداع والتمويه لكسب الوقت لتحقيق الهدف
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم عازما على الهجرة، وكان يخطط لكل خطوة يخطوها في طريق الهجرة، فأمر علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن ينام في فراشه في الليلة التي عزم على الانطلاق فيها إلى المدينة؛ بعد أن أوحى الله عز وجل إليه بمؤامرة قريش.
وتبدو في هذه اللحظة الروح الفدائية عند عليّ رضي الله عنه، والاستبسال في حماية الرسول القائد.
ومبيت عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه حقق هدفاً أمنياً هاماً في خطة الهجرة؛ إذ كان خدعةً كبيرة للمشركين، جعلتهم يعتقدون أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يزال نائماً في فراشه، بينما أتاحت للنبي صلى الله عليه وسلم مزيداً من الوقت ليتمكن من الخروج من مكة والاختفاء بعيداً.
رابعًا: قواعد الأمن مقدمة على قواعد الأدب والخلق
حيث بدأت رحلة الهجرة من دار أبي بكر الصديق رضي الله عنه في ظروف خطيرة. رواها أبوبكر رضي الله عنه بقوله: صلى الله عليه وسلم (أُخِذَ عَلَيْنَا بِالرَّصَدِ فَخَرَجْنَا لَيْلا فَأَحْثَثْنَا لَيْلَتَنَا وَيَوْمَنَا حَتَّى قَامَ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ). رغم أن الأولى أدبا وخلقًا أن تكون نقطة الانطلاق من بيت النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لكون بيت أبي بكر رضي الله عنه الأكثر أمنًا وأقل خطرًا فقدم النبي صلى الله عليه وسلم قواعد الأمن على قواعد الأدب، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم بِرُفْقَةِ أبي بكر رضي الله عنه ليلاً حتى يفلتوا من رصد المشركين، وأسرعوا في السير حتى يخرجوا خارج مكة بعيداً عن أعين الناس. وبمزيدٍ من التمويه لتحقيق الأمان خرجا صلى الله عليه وسلم (مِنْ خَوْخَةٍ أي فتحة صغيرة في الجدار لأبي بكرٍ في ظهر بيته) خشية أن يكون الرَصَدُ قُبالةَ باب داره.
خامسًا: خداعٌ وتمويهٌ ووداعٌ للراحة، سمات للتخطيط الأمني الناجح
خرج النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه في طريق الهجرة ولكنهما لم يتجها نحو المدينة بل سارا باتجاه معاكس لها؛ فتوجها إلى غارٍ في جبل ثور وهو يقع في طريق اليمن، (فَكَمنا فيه ثلاثة ليالٍ) لخداع المشركين؛ حيث يتوقع منهم التحرك باتجاه المدينة في طلب النبي صلى الله عليه وسلم، فتذهب جهود المشركين سدى ويحتاروا في أي طريق يسيرون بعد أن لم يعثروا عليه ـ بعد البحث عنه ثلاث ليال ـ في الطريق إلى المكان الذي يهدف الوصول إليه. واختار النبي صلى الله عليه وسلم جبل ثور لارتفاعه الشاهق، وطرقه الوعرة، وكثرة مغاراته، ولصعوبة اقتفاء الأثر في الجبل.
سادسًا: رجل الأمن والحماية ودوره جمع المعلومات والحراسة
لقد خطَّط النبي صلى الله عليه وسلم لرصد أخبار العدو وتحركاته، واختار لهذه المهمة عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنه وهو شاب يافع خفيف الحركة، حاذق، سريع الفهم، أمينٌ على نقل الأخبار؛ ابن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وربما لصغر سنه لا يلتفت إليه زعماء قريش فيتسمع منهم الأخبار. فكان ينقل ما سمعه في نوادي قريش من أخبار إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويتسلل ليلاً تحت جنح الظلام وستره حتى يصل إلى الغار، والنبي صلى الله عليه وسلم يخطط لتحركاته في ضوء ما توفر عن تحركات الخصم وخططه، ويبيت عندهما في الغار لتقديم العون والمساعدة، وتعزيز الحماية لهم ليلاً، وللحفاظ على سرية تحركاته، حتى إذا أوشك الفجر خرج من عندهما في هدأة الليل بعد أن نام الناس وغابت العيون فيصبح مع قريش بمكة كبائتٍ فيها.
وَوَصَفَتْ عائشة رضي الله عنها تحركات أخيها، فقالت: (يَبِيتُ عِنْدَهُمَا عَبْدُاللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَهُوَ غُلَامٌ شَابٌّ، لَقِن (أي سريع الفهم)،ٌ ثَقِفٌ (أي الحاذق الذكي)، فَيَرْحَلُ مِنْ عِنْدِهِمَا سَحَرًا، فَيُصْبِحُ مَعَ قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ كَبَائِتٍ، فَلا يَسْمَعُ أَمْرًا يُكَادَانِ بِهِ إِلا وَعَاهُ حَتَّى يَأْتِيَهُمَا بِخَبَرِ ذَلِكَ حِينَ يَخْتَلِطُ الظَّلَامُ).
سابعًا: إبطال مقدرات العدو بطَمْسُ الأَثَر محوه
لا يخفى على النبي صلى الله عليه وسلم أن العرب حُذّاقٌ في اقتفاء الأثر، ويمكن لقريش أن تهتدي إليهم باقتفاء أثر عبدالله بن أبي بكر، فأحكم الخطة وأمر راعي أبي بكر الصديق رضي الله عنه: عَامِر بْن فُهَيْرَةَ أن يسير إليهم بالغنم (فَكَانَ يَرُوحُ بِهَا وَيَغْدُو عَلَيْهِمْ وَيُصْبِحُ فَيَدَّلِجُ (أي يخرج وقت السحور) إِلَيْهِمَا ثُمَّ يَسْرَحُ فَلا يَفْطُنُ بِهِ أَحَدٌ مِنْ الرِّعَاءِ) وكان عامر يأتي بالغنم ليلا إلى الغار بعد مجيئ عبد الله بن أبي بكر إليهما، ثم يعود بها في الصباح الباكر بعد انصرافه منه، فلا يبقى له أثر. وبهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم قطع على المشركين كل سبيل للوصول إليه، وبقي على علم بأخبارهم حتى يتمكن من تأمين تحركه باتجاه المدينة.
ثامنًا: الاستفادة من رجال العدو
وحتى يصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بأمان لذا فقد استأجر صلى الله عليه وسلم (رَجُلا مِنْ بَنِي الدِّيلِ … هَادِيًا خِرِّيتًا أي يعرف الطرق مهما صغرت ولو كانت مثل خرت الإبرة أي ثقبها) …وكان اسمه عبد الله بن أريقط وَهُوَ عَلَى دِينِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ فَأَمِنَاهُ فَدَفَعَا إِلَيْهِ رَاحِلَتَيْهِمَا وَوَاعَدَاهُ غَارَ ثَوْرٍ بَعْدَ ثَلاثِ لَيَال، فَأَتَاهُمَا بِرَاحِلَتَيْهِمَا صَبِيحَةَ لَيَالٍ ثَلاثٍ، فَارْتَحَلا " وبذلك يشرع لنا النبي صلى الله عليه وسلم الاستعانة والاستفادة من رجالات العدو ومقدراته إذا كان آمنًا مقابل الأجرة والمال وهذا ييسر للمجاهدين الوصول لبعض أماكن العدو شراء سلاحه مقابل مال يطمع به بعض رجالات العدو
تاسعًا: اتباع قواعد الأمن والحذر حتى الوصول للهدف
ويبقي النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر الصديق رضي الله عنه على أقصى درجات الحيطة والحذر؛ بالرغم من اقترابهما من حدود المدينة، (إذ أَقْبَلَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَدِينَةِ وَهُوَ مُرْدِفٌ أَبَا بَكْر رضي الله عنه ـ وَأَبُو بَكْرٍ شَيْخٌ يُعْرَفُ وَنَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَابٌّ لا يُعْرَفُ – قَال:َ فَيَلْقَى الرَّجُلُ أَبَا بَكْرٍ فَيَقُولُ: يَا أَبَا بَكْر؛ مَنْ هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْك؟َ فَيَقُولُ: هَذَا الرَّجُلُ يَهْدِينِي السَّبِيلَ. قَالَ: فَيَحْسِبُ الْحَاسِبُ أَنَّهُ إِنَّمَا يَعْنِي الطَّرِيقَ وَإِنَّمَا يَعْنِي سَبِيلَ الْخَيْرِ).
المخاطر لا زالت موجودة بالرغم من الاقتراب من المدينة، عيون قريش، والمطاردة المستمرة، وخبر الجائزة الذي طار إلى قبائل العرب المنتشرين في الجزيرة، وأصحاب المصالح مع قريش.
الكاتب: د. زكريا زين الدين