تفكيك “الشيفرة الثقافية” الإسرائيلية
فيما تحتل قضية آلاف الأسرى الفلسطينيين القابعين خلف جدران الاعتقال في باستيلات الاحتلال، قمة الأجندة السياسية الفلسطينية على الدوام، باعتبارهم نخبة وطليعة النضال الفلسطيني ضد الاحتلال، فإنها تحتل في الوقت ذاته أهمية استراتيجية لدى سلطات الاحتلال للاعتبار ذاته.
فدولة الاحتلال التي تعتقل اليوم أكثر من اثني عشر ألف فلسطيني ـ والأرقام متحركة من يوم لآخر ـ تتعامل معهم بوصفهم القيادة الطليعية للشعب الفلسطيني، وتستهدفهم معنوياً وسيكولوجياً بغية تحطيم صورتهم وإرادتهم ورمزيتهم للشعب والقضية، ولذلك تبنت تلك السلطات على مدى عقود الاحتلال الماضية، سياسة متشددة إزاء مساومات تبادل الأسرى وتحريرهم.
فقد درجت على اعتبار المعتقلين الفلسطينيين “مخربين” أو “إرهابيين” أو”مجرمين” وليسوا أسرى حرب، ولذلك وضعت معايير قولبت على شكل “تابو” خاص بشروط إطلاق سراح معتقلين فلسطينيين، وعلى هذه الخلفية تدور اليوم رحى معركة تبادل الأسرى.
يتساءل النائب عيسى قراقع رئيس نادي الأسير الفلسطيني قائلا: إن سؤال الإشكالية هو: هل أزمة الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال هي أزمة سياسية أم تربوية؟ ويقول: “ولأن الأسرى فرضوا وجودهم كأمر واقع على الحياة السياسية الإسرائيلية، فان التعامل معهم يجري وكأنهم أرقام لا بشر، بل فئران كما قال الصحفي “عاموس هرئيل” ليست لهم حقوق، والذي يقرر حقوقهم هو نظرية القوة والأمن والأوامر والتعليمات العسكرية الصادرة عن الضابط أو من الجهاز القضائي الإسرائيلي…”.
ولكن الصلف الإسرائيلي المعهود في مسألة إطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين “الملطخة أيديهم بالدماء اليهودية”، على ما يبدو بدأ يدخل في مرحلة جديدة جوهرها النكوص والتراجع والاستسلام لقضاء القوة، فالقوة بالقوة والأسير بالأسير، هذا هو الاستخلاص الكبير الذي يمكن أن نتوج به “عملية الرضوان” الأخيرة لتبادل الأسرى.
ولعل تصريح رئيس دولتهم شمعون بيريز الذي أعرب فيه عن موقف جديد قائلاً: “يمكن مبادلة شاليط بأسرى قتلوا إسرائيليين، لكن الأمر ليس سهلاً غير أنه سبق ل”إسرائيل” أن قامت بذلك” (17/07/2008) ينطوي على أهمية استراتيجية ومعنوية بالغة الأهمية، يمكن أن نعتبرها بداية تفكك وتحلل “الشيفرة الثقافية الإسرائيلية” تجاه مسألة الأسرى الفلسطينيين والعرب.
وبرر بيريز موقفه الجديد بأن “من اتخذوا القرار بعقد صفقة التبادل مع حزب الله وضعوا نصب أعينهم القيم وليس الثمن”، زاعما أنه “يوجد في الطرف الآخر أشخاص إلههم إله الإرهاب، غير أننا سنظل ملتزمين بأسمى القيم الأخلاقية وسنكافح دائماً لاستعادة أبنائنا“.
غير أن عملية تفكيك تلك “الشيفرة” لم تكن لتقترب بغير منطق القوة، والتجربة الطويلة مع دولة الاحتلال تبرهن على ذلك. ومن هنا يمكن أن نتحدث عن تداعيات استراتيجية هامة، فبالإجماع اللبناني الفلسطيني، والإسرائيلي إلى حد كبير، كانت “صفقة الرضوان” لتبادل الأسرى والجثامين، من أهم عمليات التبادل التي نفذت حتى اليوم وعددها يصل إلى ست وثلاثين عملية وفق الوثائق.
وأهميتها التاريخية والاستراتيجية هي بالتأكيد كونها جاءت كما وثق في الأدبيات السياسية الإسرائيلية، استمراراً لحرب صيف 2006، واستمرارا لهزيمة “إسرائيل” في تلك الحرب، واستمراراً أيضاً لمسلسل الانتصارات التي تسجل لصالح حزب الله والمقاومة. ولذلك تنطوي هذه العملية أكثر من سابقاتها على جملة مفتوحة من الدلالات والدروس والعبر والاستخلاصات بالغة الأهمية الاستراتيجية، في سياق صراع ضار مفتوح مع دولة الاغتصاب الصهيوني.
وربما يكون الاستخلاص الأبرز والاهم هو ذلك المتعلق بملف أكثر من اثني عشر ألفاً من الأسرى الفلسطينيين والعرب الذين ما زالوا صامدين في باستيلات الاحتلال الصهيوني، وأن الطريق الوحيد لتحريرهم، كما برهنت التجربة المثخنة بالجراح الفلسطينية اللبنانية، حتى الآن هو طريق القوة والقوة فقط..
فهكذا كما أقيم ذلك الكيان على الحراب والحروب والقوة والإرهاب، فإنه لا يرتدع ولا يتراجع ولا يهزم إلا بالقوة. فهل أطلقت عملية المفاوضات والسلام سراح معتقل فلسطيني أو عربي واحد من “الوزن الثقيل” مثلاً؟ وهل تجاوبت دولة الاحتلال أصلاً مع المطالب الفلسطينية والعربية بإطلاق سراح الأسرى؟!
وليس ذلك فحسب.. ففي القناعات الفلسطينية الراسخة على امتداد الفصائل والجماهير الفلسطينية، فإنه لن يتم تحرير آلاف الأسرى إلا بالقوة فقط. ناهيك عن أن هناك الكثير أيضاً من الاعترافات والشهادات الإسرائيلية على مختلف المستويات، التي تقول صراحة إن “”إسرائيل” لا تفهم سوى لغة القوة”.. فبالقوة فقط يمكن تحرير الأسرى.. وبالقوة وحدها يمكن تحرير الوطن المغتصب.. وتحرير شعب كامل يرزح تحت الاعتقال في معسكرات الاعتقال الجماعي الصهيونية.
وفي هذا الصدد تحديداً قال السفير محمد بسيوني، رئيس لجنة الشؤون الخارجية والعلاقات العربية والأمن القومي بمجلس الشورى المصري: “إن خبرته في العمل كسفير طوال عقدين في “إسرائيل”، تؤكد أن أي رئيس وزراء إسرائيلي لن يعطي أي حق عربي طواعيةً، وإنما يتم ذلك بــ “الإجبار”، سواء بعمل عسكري أو اقتصادي أو سياسي أو تحت تهديد سلاح دمار شامل” (فلسطين اليوم ـ 19/04/2008).
وها هو الكاتب الإسرائيلي المعروف جاكي خوجي، يثبت هذا الاستخلاص في معاريف (19/11/2007) قائلاً: “إن التجربة علمت “إسرائيل” أنه بخلاف مفهومها عن نفسها، فإنها لا تفهم سوى لغة القوة، وهذه الحقيقة ثبتت من قبل الفلسطينيين“.
إلى ذلك، ونحن نوثق هذه المعطيات الهامة حول تابو المعايير الإسرائيلية للأسرى وحول الأسرى وصفقات التبادل، فإننا نؤكد في الخلاصة أن معركة تحرير الأسرى الفلسطينيين والعرب، ستبقى مفتوحة على أوسع نطاق، طالما بقي أسير واحد في معتقلات الاحتلال، وطالما بقي جندي أو مستوطن يهودي على رقاب الشعب الفلسطيني، وطالما أن دولة الاحتلال لا تغير معاييرها ولا تعترف بالمعتقلين الفلسطينيين كأسرى حرب.